قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد(2/112-114): الناس
على أربعة أقسام:
القسم
الأول: من
يستطيع الاجتهاد المطلق بأن يأخذ من
الكتاب والسنّة ويستنبط من الكتاب والسنّة
ولا يقلِّد أحداً.
وهذا
أعلى الطبقات، ولكن هذا إنما يكون لمن
توفّرتْ فيه شروط الاجتهاد المعروفة،
بأن يكون عالماً بكتاب الله وبسنة رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وأن يكون عالماً بلغة العرب التي نزل بها
القرآن، وأن يكون عالماً بالمحكم والمتشابه
وبالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيَّد،
والخاص والعام، ويكون عنده معرفة بمدارك
الاستنباط، أعني:
لديه
مؤهِّلات، فهذا يجتهد.
وهذا
الصنف كالأئمة الأربعة:
أبي
حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان
الثوري، والأوزاعي، هؤلاء أعطاهم الله
مَلَكة الاجتهاد.
الصنف
الثاني: من
لا يستطيع الاجتهاد المطلَق، ولكنه يستطيع
الترجيح بين أقوال أهل العلم بأن يعرف ما
يقوم عليه الدليل وما لا يقوم عليه الدليل
من أقوالهم.
فهذا
يجب عليه الأخذ بما قام عليه الدليل وترك
ما خالف الدليل وهذا العمل يسمى بالترجح
ويسمى بالاجتهاد المذهبي.
الصنف
الثالث: من
لا يستطيع الترجيح.
فهذا
يُعتبر من المقلدِّين، ولكن إذا عرف أنّ
قولاً من الأقوال ليس عليه دليل
فلا
يأخذ به، أما ما دام لا يعرف ولم يتبيّن
له مخالفة، فلا بأس أن يقلِّد ويأخُذ
بأقوال أهل العلم الموثوقين.
والصنف
الرابع: من
لا يستطيع الأمور الثلاثة:
لا
الاجتهاد المطلق، ولا الترجيح، ولا
التقليد المذهبي كالعامي-
مثلاً-.
فهذا
يجب عليه أن يسأل أهل العلم كما قال الله
تعالى:
{فَاسْأَلوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ}
،
فيسأل أوثق من يرى، ومن يطمئن إليه من أهل
العلم، ممّن يثق بعلمه وعمله ويأخذ بفتواه.
هذه
أقسام الناس في هذا الأمر.
ومن
هنا علِمنا أن الأمر ليس بمتروك ومُفْلَت،
كل واحد ينصب نفسه منصب الأئمة ومنصب
المجتهدين، ويغلِّط العلماء، ويرجّح من
غير علم. أو
يزهِّد في الفقه وأقوال الفقهاء، ويعتبرها
شيئاً مرفوضاً.
وهذا
ليس من آداب طلبة العلم المريدين للحق.
والواجب
على الإنسان:
أن
يعرف قدْر نفسه، فلا يجعل نفسه في مكانة
أعلى مما تستحقُّها، بل الأمر أخطر من
ذلك وهو أن يخاف من الله سبحانه وتعالى
لأن الأمر أمر تحليل وتحريم وجنة ونار،
فلا يورِّط نفسه في أمور لا يُحسن الخروج
منها.
والمجتهد
إذا توفّرت فيه شروط الاجتهاد فإن أصاب
فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد، لأنه
يريد الحق، ولكنه لم يستطع الوصول إليه
بعد بذْل مجهوده، بذَل مجهوده وتحرّى
الحق ولم يصل إليه، فهو معذور، قال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إذا
اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد
فأخطأ فله أجرٌ واحد"،
لكن مع كونه معذوراً ومأجوراً في الخطأ
لا يجوز لنا أن نأخذ بقول نرى أنه خطأ، بل
يجب علينا أن نأخذ بالقول الصواب، سواء
كان هذا القول الصواب في المذهب الذي
نقلّده، أو في مذهب آخر، هذا هو طريق أهل
الحق، أنهم لا يقلِّدون على خطأ، بل يأخذون
ما ترجّح بالدليل ولو لم يكن عليه إمامهم.
ولهذا-
ولله
الحمد- إمام
هذه الدعوة ومؤلِّف هذا الكتاب الشيخ
محمد بن عبد الوهّاب وتلاميذه ومَن جاء
بعده من علماء هذه البلاد ينهجون هذا
المنهج، ويقولون:
نحن
حنابلة، ولكن ليس معنى هذا أننا نأخذ كل
ما في المذهب الحنبلي بدون تمحيص، بل إذا
قام الدليل على قول من الأقوال أخذنا به
ولو لم يكن في المذهب الحنبلي، كالمذهب
المالكي، أو المذهب الشافعي، أو المذهب
الحنفي، لأننا ننشُد الدليل، ولا يمنع
هذا أن يكون الإنسان حنبليًّا وإذا أخذ
بقول قام عليه الدليل يخالف قول ابن حنبل
أخذ به لأن إمامه أرشده إلى هذا، فقال له:
خذ
ما قام عليه الدليل، ولا تقلِّدني على
خطأ، كلُّ الأئمة يقولون هذا، ما أحد منهم
ادّعى العصمة أو ادّعى الكمال أو قال
للناس لا تخالِفوا مذهبي أبداً، بل هم
يحذِّرون من هذا، فأنت إذا أخذت بالدليل
فإنك موافِقٌ لإمامك الذي تقلِّده، أما
إذا أخذت الخطأ فأنت مخالفٌ لإمامك وإن
كنت تزعُم التعصُّب له.
فهذه
مسألة يجب علينا أن نهتمّ بها، فنتجنّب
الإفراط والتفريط، لا نكون مع الذين
يرفضون الفقه، ويقولون:
هذه
أقوال رجال، فيضيعون، فلا هم الذين أخذوا
بالفقه، ولا هم الذين يُحسنون الاستنباط
والاستدلال، فضاعوا وضيعوا من تبعهم.
ولا
نحن مع الذين يقلِّدون تقليداً أعمى،
ويتعصّبون لمذاهبهم، ويأخذون بقول إمامهم،
ولو خالف الحديث، ويقول:
آخذ
بقول إمامي ولو خالف الدليل، لأن إمامي
أعلم بالدليل.
فهذان
على طرفي نقيض.
والصواب
الوسط، أننا نأخذ بالفقه، ونأخذ بأقوال
الأئمة، وندرُس الفقه، لأن دراسته طريقٌ
إلى معرفة الحق، ولكن لا نقلِّد تقليداً
أعمى، وإنما نميِّز بين الأقوال التي
عليها دليل والتي ليس عليها دليل، وإذا
كنا لا نعرف هذا علينا أن نسأل أهل العلم
عن ذلك.
هذا
هو الحق والوسط في هذه المسألة التي خاض
فيها الناس في وقتنا الحاضر على غير هدى
إلا من رحم الله.