قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد وعند شرحه على باب من سب الدهر فقد آذى الله(2/175): وقول
الله تعالى:
{وَقَالُوا
مَا هِيَ إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا
إلاّ الدَّهْرُ}
الآية:
ذكر
الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن
المشركين، الذين بُعث إليهم رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّهم
يُنكرون البعث ويستبعدونه، ويزعمون أنّه
لا يمكن حصول البعث لأنّ الأجسام تتفتّت
وتضيع وتذهب، فمن أين الإعادة لشيء قد
ضاع وتفتّت وذهب:
{وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ
مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
(78)
قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
(79)
} ،
{وَقَالُوا
أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
(49)
قُلْ
كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50)
أَوْ
خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ
فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ
الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ
وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ
يَكُونَ قَرِيباً (51)
} ،
{أَإِذَا
كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (11)
قَالُوا
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
} ،
{أَإِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
أَوَآبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (17)
} ،
{أَإِذَا
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ
بَعِيدٌ (3)
قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
(4)
} ،
فيا سبحان الله أين العُقول؟!،
فالذي خلقهم من لا شيء، وأوجدهم من العَدَم
في أوّل مرّة؛ ألا يقدر على إعادتهم مرّة
ثانية؟، بل من ناحية العُقول:
أنّ
الإعادة أسهل من البداءة:
{وَهُوَ
الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
} ،
مع أن الله لا يصعُب عليه شيء سبحانه
وتعالى، لا الإعادة ولا البداءة، الكلّ
سهلٌ عليه ويسيرٌ عليه لكن هذا من جهة
التصور العقلي.
ثم-
أيضاً-:
لو
لم يكن بعثٌ ونُشور للزِم أن يكون خلق
الخلق عبثاً لا نتيجة له، وهذه الأعمال
لا نتيجة لها:
الإيمان
والطاعة والاستقامة والعبادة لا نتيجة
لها إذا لم يكن هُناك بعث، الكفر والمعاصي
والإلحاد والفُسوق والظُّلم والعُدوان
لا نتيجة له، لأنّنا نرى أنّ النّاس يموتون
الطائع والعاصي المؤمن والكافر، الكافر
يموت على كفره، والمطيع يموت على طاعته،
وقد يكون المطيع في هذه الدنيا في فقر
وحاجة ومرض وآلام، وقد يكون الكافر في
نعيم وفي رفاهية وفي أُبَّهة من العيش مع
كفره، إذاً:
أين
النتيجة؟، لا بدّ أن هناك داراً أُخرى
تظهر فيها النتائج، تظهر
فيها نتيجة الطّاعة، ونتيجة المعصية،
وإلاّ للزِم أن يكون خَلْقُ الخلْق عبثاً،
كما قال تعالى:
{أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ
(115)
} ،
وقال تعالى:
{أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ
أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً
مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ (21)
وَخَلَقَ
اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ
بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
(22)
} ،
وقال سبحانه وتعالى:
{أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
مَا
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
} ،
وقال سبحانه وتعالى:
{أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ (28)
} ؟
، هذا تأباه حكمة الله سبحانه وتعالى،
فكون المطيع الصالح العابد يعيش في هذه
الدنيا في ضيق ومرض وفقر وفاقة؛ لأنّ الله
ادّخر له جزاءً يوم القيامة، وكون العاصي
والكافر يعيش في سُرور وفي رغَدٍ من العيش
مع كفره؛ هذا لأنّ الله أعدّ له النّار
يوم القيامة؛ {قُلْ
تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}
،
{وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ
كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ
مَثْوىً لَهُمْ}
،
تأبى حكمة الله سبحانه وتعالى أن يُضيع
أعمال العباد سُدى، وأن يسوِّي بين المؤمن
والكافر والمطيع والعاصي، تأبى حكمة أحكم
الحاكمين أن تتّصف بذلك، فلولا أنّ هناك
بعثاً يحاسَب فيه العباد ويجزى كلُّ عامل
بعمله للزم العبث وللزم الجور والظُّلم
من الله، تعالى الله عن ذلك، دلّ هذا على
أن هناك داراً أُخرى غير هذه الدّار، أخبر
الله عنها، وتواترت بها أخبارُ الرُّسل-
عليهم
الصلاة والسّلام-،
لكنّ المشركين الذين بُعث إليهم رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يستبعدون البعث لجهلهم بقدرة الله سبحانه
وتعالى، ويقيسون قدرة الخالق على قدرتهم،
ولهذا استصعبوا البعث، ورأوه مستحيلاً؛
أن يبعث الله هذه الأجسام بعد تفتُّتها
وضياعها في الأرض، ولكنّ الله سبحانه
وتعالى يعلم مستقرّها ومستودَعها ويعلم
مصيرها، ولو فنَيتْ وصارت تُراباً فالله
يعلم هذه الأجسام وما تحلّل منها وقادرٌ
على إعادتها:
{قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
(4)
} ،
بل إنّ كل جسم الإنسان يفنى إلاَّ عَجْبَ
الذَّنب، وهو:
حبّة
صغيرة، منها يركَّبُ خلقُ الإنسان يوم
القيامة.
فهم
ينكرون البعث والنشور ويقولون:
{مَا
هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}
ما
هناك حياةٌ أُخرى بعد هذه الحياة، ما هناك
إلاّ الحياة التي نحن فيها.
{نَمُوتُ
وَنَحْيَا}
يعني:
يموت
ناس ويولَد ناس، كما يقولون:
أرحام
تدفع، وأرض تبلع.
{وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}
أي:
أنّ
سبب الموت إنما هو طول العمر طول الحياة،
الإنسان يعمّر ثم يَهْرَم ثم يموت، أو
سبب الموت هو:
حوادث
الدهر، فينسبون الهلاك إلى الدهر.
إذا
أصابهم قحط أو انحباس مطر نسبوه إلى
الدّهر، وإذا أصابتهم مجاعة أو أصابهم
قتلٌ أو مرض نسبوه إلى الدهر، ويزعمون
أنّ هذا من تصرُّف الدهر، ولذلك يهجون
الدهر في إشعارهم.
وهذا
في الحقيقة إنّما هو ذمٌّ لله سبحانه
وتعالى، لأنّ الدهر ليس في مقدوره شيء،
فليس هو الذي يصدرُ هذه المجريات، وإنما
هي صادرة عن الله سبحانه وتعالى، فمن ذَمّ
الدهر فقد ذمّ الله سبحانه.
قال
الله تعالى:
{وَمَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}
الواجب
أن الإنسان إذا ادّعى دعوى أن يقيم عليها
الدليل، وما عندهم دليل، ولهذا قال:
{وَمَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}
يعني:
ما
لهم دليل على هذا، بل الدليل على العكس،
على أن الدهر ليس له تصرُّف وإنّما التصرُّف
هو للخالق سبحانه وتعالى.
ثم
قال:
{إِنْ
هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
يعتمدون
على الظّن، والظن {لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}
.
هذا
هو المنطق الصحيح في لسان المناظرات، أما
مجرّد الوهم ومجرّد الظنّ، فلا يُبنى
عليه مثل هذا الأمر العظيم، وهو إنكار
البعث.