قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد(2/149-153) وعند شرحه على قول المؤلف: باب قول الله تعالى:
{يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}
.
قال
مجاهدٌ-
ما
معناه-:
"هو
قول الرجل:
هذا
مالي ورثته عن آبائي".
وقال
عونُ بن عبد الله:
"يقولون:
لولا
فلان لم يكن كذا".
وقال
ابنُ قُتيبة:
"يقولون:
هذا
بشفاعة آلهتنا".
وقال
أبو العبّاس بعد حديث زيد بن خالد الذي
فيه:
أنّ
الله سبحانه وتعالى قال:
"أصبح
من عبادي مؤمنٌ بي وكافر ...
" الحديث-
وقد
تقدّم-:
وهذا
كثير في الكتاب والسنّة؛ يذم سبحانه من
يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.
قال
بعضُ السلف:
هو
كقولهم:
كانت
الرّيح طيِّبة والملاّح حاذِقاً ...
ونحو
ذلك ممّا يجري على السنّة كثير:
المُراد
بإنكارها:
جُحودُها،
إما باللّسان وإمّا بالقلب، بأن تُنسَب
إلى غير مَن أنعم بها، إما أن تُنسب إلى
الأسباب، وإمّا أن تُنسب إلى الأصنام
والآلِهة، وإمّا أن تُنسب إلى الآباء
والأجداد، وإمّا أن تُنسب إلى كَدِّ العبد
وكسبِه وحِذْقِه ومعرِفَته وإما بصرفها
في معصية الله.
فما
ذكره الشيخ رحمه الله في هذا الباب إنّما
هو أمثلة لكُفران النعمة.
قوله:
"هذا
مالي ورثته عن آبائي"،
فلا يَنْسب حصول المال إلى الله سبحانه
وتعالى، وإنما ينسِبُه إلى آبائه وأجداده.
وكذلك
إذا نسبه إلى كَدِّه وكسبه وحِذْقِه
ومعرفته، فإنّ هذا جُحود لنعمة الله،
لأنّ المال فضلٌ من الله سبحانه وتعالى،
أما الحِذْق والكسب ومعرفة الصنعة فهذه
أسباب قد تُنْتِجْ مسبَّباتِها وقد لا
تُنْتِج، فكم من حاذِق وكم من عالم وكم
من صانع يُحْرَم من الرّزق ولا تُغنيه
صنعته شيئاً، فهذا فضلٌ من الله سبحانه
وتعالى، وأما هذه فهي أسبابٌ إن شاء الله
نفعتْ وإنْ شاء لم تنفع.
قوله: "يقولون:
لولا
فلان لم يكن كذا"
وهذا
لا يجوز، لأن فيه نِسبة النعمة إلى
غير
الله، والذي يجوز ما أرشد إليه النّبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن
تقول:
"لولا
الله، ثُمَّ فلان"،
لأنّك نسبت النعمة إلى الله، وذكَرْتَ
أنّ فلاناً إنّما هو سببٌ فقط، لأنّ
(ثُمَّ)
للترتيب
والتعقيب.
قوله:"يقولون:
هذا
بشفاعة آلِهتَنا"
يعني:
يقول
المشركون:
هذا
الذي حصل من الخير ومن النّفع إنما هو
بشفاعة آلهتنا.
يعني:
أنّ
آلهتهم شفعتْ عند الله في حصولها، لأنّ
المشركين الذين يعبُدون غير الله لا
يعتقدون أن معبوداتهم هي التي تخلُق
وترزُق، وإنما يعبدونها لاعتقاد أنّها
تشفَع لهم عند الله، كما قال تعالى:
{وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ
وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}
،
وقوله:
{مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللهِ زُلْفَى}
،
فهم يعتقدون أنّ هذه المعبودات تشفع لهم
عند الله، وهذا كذِب، لأنّ الله بيّن
الشفاعة الصحيحة، وهي ما توفّر فيها
شرْطان:
إذْنُ
الله للشّافع أن يشفع، ورضاهُ عن المشفوع
فيه بأن يكون من أهل التّوحيد.
والمشركون
يتقرّبون بأنواع القربات إلى هذه الأوثان،
ويذبحون لها، وينذُرون لها، ويطوفون بها،
ويقولون:
{هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}
،
مثل حالة عُبّاد القبور اليوم، يذبحون
للقُبور، وينذُرون للقبور، ويهتِفون
بها، ويستغيثون بها، ويستصرخون بها،
ويقولون:
نحن
لا نعتقد أنها تخلُق وترزُق، إنما هي
شفعاء عند الله.
وكذَبوا
في ذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى لا يرضى
بهذا ولم يكن هؤلاء شفعاء عنده سبحانه
وتعالى.
ومن
ذلك قولهم:
هذا
بشفاعة آلِهَتنا.
يقولون:
إنّ
هذه النعم إنما هي بسبب آلهتنا وبشفاعتها
عند الله، كما يقول القبوريّ:
هذا
بسبب الوليّ فلان، بسبب عبد القادر، بسبب
العَيْدَرُوس، بسبب البَدَويّ، وهذا
يدخُل في قوله:
{يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}
بمعنى:
أنهم
ينسِبون نعمة الله إلى هذه المعبودات من
دون الله عزّ وجلّ.
فهذه
طريقة المشركين قديماً وحديثاً.
قوله: "بعد
حديث زيد بن خالد الذي فيه:
أنّ
الله سبحانه وتعالى قال:
"أصبَحَ
مِنْ عبادي مؤمنٌ بي وكافر فأمّا مَنْ
قال:
مُطِرْنا
بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ
بالكوكب.
وأما
مَن قال:
مُطِرْنا
بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ
بالكوكب".
ثم
قال أبو العبّاس رحمه الله:
"يذم
سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك
به"
فكل
من أضاف نعم الله إلى غيره فقد كفر نعمة
الله، وأشرك به.
وهذا
الشرك وكفر النعمة ليس من الكفر والشرك
المخرِج من الملّة، إذا كان الإنسان يعتقد
أنّ إضافة النعمة إلى الشيء من إضافة
المسبّب إلى سببه، وإنّما المنعم هو الله،
وأضافها إلى السبب مجرّد مجاز، فهذا كفرٌ
أصغر.
أما
إذا اعتقد أنّ النعم من إحداث المخلوق
ومن صُنع المخلوق، فإنّ هذا كفرٌ أكبر
يُخرِجُ من الملّة.
فالواجب
أن تُضاف النعم إلى الله سبحانه وتعالى.
فكلّ
مَن أضاف النعمة إلى غير الله، فإنّ هذا
كفرٌ بالله، إما أنْ يكون كفراً أكبر،
وإما أن يكون كفراً أصغر، بحسَب ما يقوم
باعتقاد الشّخص وقَرارة نفسه، فليحاسِب
الإنسان نفسه عند ذلك.
ومن
ذلك:
ما
يجري على ألسنة بعض الصحفييّن وكثير من
الإعلاميِّين الذين ينسِبون الأشياء إلى
أسبابها، فيقولون:
"المطر
ناتج عن انخفاض جويّ، أو عن المناخ"
وما
أَشبه ذلك.
فالذي
يُضيف المطر إلى وقته أو إلى الكوكب أو
إلى النّوء، فهو من هذا الباب، كما في
حديث زيد بن خالد:
"أصبَحَ
مِن عبادي مؤمنٌ بي وكافر"
نعم:
المناخ
أو الانخفاض الجويّ سبب، لكن الذي ينزِّل
المطر ويكوِّن المطر هو الله سبحانه
وتعالى، ليس لهذه الأسباب تدخُّلٌ في
إيجاد المطر أو إحداث المطر.
وقد
حصل-
ويحصُل-
أنّ
هناك مناخات كانت تهطُل فيها الأمطار
بكثرة، ولكن يأتي وقتٌ من الأوقات تُقْفِر
هذه المناخات وتُجْدِب، فكثير من القارّات
وإنْ كانت معروفة بكثرة المطر وتواصُل
المطر عليها يحصُل فيها الجدْب، كما
يقولون عنه:
الجفاف،
في أمريكا وفي أوروبّا وفي أفريقيا حصل
جفافٌ كثير، وهلكت خلائق كثيرة من الأموال
ومن الأنفُس، وما نفعهم المناخ، هذا بيد
الله سبحانه وتعالى، وفي تقدير الله
سبحانه وتعالى.
قوله:
"هو
كقولهم:
كانت
الريح طيِّبة، والملاّحُ حاذقاً"
يعني
أن من إنكارهم لنعمة الله أنهم إذا ساروا
في البحر في السُّفُن التي كانت تسير
بالرِّيح إذا نجوا من البحر وخرجوا إلى
البر يُثنون على الرِّيح وعلى الملاّح،
ولا يقولون:
هذا
بفضل الله، بل يقولون:
كانت
الريح التي حملت السفينة طيِّبة.
"وكان
الملاّح حاذِقاً"
الملاّح
هو:
قائد
السفينة، سمّى ملاّحاً لملازمته للماء
المِلْح، لأنّ مياه البحار مالحة، فالذي
يقود السفينة يقال له:
ملاّح،
لأنّه يسير على الماء المِلْح والحاذق:
الذي
يجيد المهنة.
وكان
الواجب عليهم أن يقولوا:
أنّ
الله هو الذي نجّانا، وهو الذي سخّر لنا
الرّيح الطيِّبة، وهو الذي أقدر قائد
السّفينة وألهمه أن يقودها إلى برّ
السلامة.
أما
أن يقولوا:
إنّ
نجاتنا وخُروجنا إلى البر بسبب طيب الريح
وحِذْق القائد، فهذا كفرٌ بنعمة الله
سبحانه وتعالى.
وقوله:
"ونحو
ذلك ممّا يجري على ألسنة كثير"
يعني:
نحو
هذه الألفاظ ممّا يجري على ألسنة كثيرٍ
من النّاس من نِسْبة النِّعَم إلى غير
الله سبحانه وتعالى، إمّا من باب التساهُل
في التعبير، وإمّا من باب سوء الاعتقاد،
فإنْ كان من سوء الاعتقاد فهو كفرٌ
يخرج
من الملّة، وإنْ كان من باب الإساءة في
التعبير مع الاعتقاد بأنّ الله هو الذي
أوجد هذا الشيء:
فهذا
كفرٌ أصغر، يسمّى بكفر النّعمة.
فهذا
الباب باب جليل لأنّه يعالِج مشكلة يقع
فيها كثيرٌ من النّاس ولا يحسِبون لها
حساباً، ويتكلّمون بكلام يظنّونه هيّناً
وهو عند الله عظيم:
حيث
إنّهم ينسبون نعم الله تعالى إلى غيره،
ولا يشكرون الله سبحانه وتعالى، ولهذا
قال:
"ونحو
ذلك ممّا يجري على ألسنة كثير"
فهذا
تنبيهٌ لنا أن لا نقع في هذه المزالِق،
حتى إنّ ابن عبّاس رضي الله عنه فسّر قوله
تعالى:
{فَلا
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ}
قال:
"هو
قول الرّجل:
"لولا
الله وفلان"،
"ما
شاء الله وشئت"،
"لولا
كُلَيْبَةُ هذا لأتانا اللُّصوص"،
"لولا
البّط في الدّار لأتانا اللّصوص"،
وما أشبه ذلك من الألفاظ وعد هذا من اتّخاذ
الأنداد لله تعالى.
فهذه
مسائل هي في عُرْف النّاس سهلة، ولكنّها
خطيرة جدًّا، لأنها كفرٌ بنعمة الله
سبحانه وتعالى وإساءةُ أدبٍ مع جَناب
الرّبوبيّة.