قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد(2/65-68): {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقيَ في النار، حينما ألقاه قومه في النار
انتصاراً لآلهتهم، فقال الله للنار:
{كُونِي
بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
. وهذا فيه:
التوكُّل
على الله سبحانه وتعالى، وبيان ثمراته،
وأن ثمرة التوكُّل على الله حوّلت النار
إلى برْدٍ وسلام على إبراهيم عليه الصلاة
والسلام.
فهذا
فيه:
فضيلة
هذه الكلمة، وثمرة التوكُّل على الله
سبحانه وتعالى.
وقالها
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حين قالوا له:
{إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}
الآية"
لَمّا
حصلت غزوة بدر في السنّة الثانية من
الهجرة، وانتصر
المسلمون
فيها، وقتلوا صناديد الكفُار ورؤساءهم،
وغَنِموا أموالهم؛ عند ذلك تشاور المشركون
في مكة بقيادة أبي سفيان بن حرب، وأرادوا
غزو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ انتقاماً لرؤسائهم الذين
قُتلوا في بدر، ولآبائهم ولأموالهم التي
أُخذت، فاجتمعوا بقيادة أبي سفيان بن
حرب، وجاءوا بجيوش عظيمة -ونزلوا
عند أحد، وهو الجبل الذي يقع شمالي شرق
المدينة، فخرج إليهم رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه بعد
التشاوُر معهم:
هل
يخرج إليهم، أو يبقى في المدينة؟.
فكان
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يميل إلى البقاء في المدينة، وهو رأي عبد
الله بن أُبي، ولكنّ الصحابة الذين لم
يحضروا بدْراً ندِموا ندامة شديدة وعزَموا
على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن يخرج إليهم ليخرجوا كما خرج
إخوانهم في بدر، ليستدركوا ما حصل وما
فات عليهم في بدر.
فالرسول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل
على رغبة هؤلاء الصحابة وخرج، وخرج
المسلمون معه، ورجع عبد الله بن أبي
المنافق مع جماعة من المنافقين، وانخذل
من العسكر.
فخرج
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بأصحابه وعسكر عند أحد، ونظّم أصحابه،
وجعل جماعةً من الرُّماة على الجبل ليحموا
ظهور المسلمين أن يأتيهم الكفّار من
الخلف.
ثمّ
دارت المعركة وصار النصر للمسلمين، فصاروا
يجمعون المغانم، فلما رأى الذين على الجبل
أن أصحابهم يجمعون المغانم ظنوا أن المعركة
قد انتهتْ؛ أرادوا النزول من الجبل
ليشاركوا في جمع الغنائم، فمنعهم قائدهم
عبد الله بن جُبَيْر، لأن الرسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم:
"لا
تتركوا الجبل سواء انتصرنا أو هُزمنا"،
ولكنهم رضي الله عنهم اجتهدوا ونزلوا من
الجبل، وأما رئيسهم فبقي طاعةً لرسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما
رأى خالد بن الوليد-
وكان
يومَ ذاك على الشرك-
الجبل
قد فرغ، وكان قائداً محنَّكاً يعرف السياسة
الحربية؛ دار بمن معه من كتيبة الخيل،
وانقضّوا على المسلمين من خلف ظهورهم،
والمسلمون لم يشعروا، فدارت المعركة من
جديد، وعاقب الله المسلمين بسبب هذه
المخالفة التي حصلتْ من بعضهم والعقوبة
شملت المخالفين وغير المخالفين، لأن
العقوبة إذا نزلت تَعُمّ، قال تعالى:
{وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
.
فدارت
المعركة من جديد، وأصاب المسلمين ما
أصابهم من القرْح، واستُشهد منهم سبعون
من خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار،
وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطّلب عم الرسول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أصابه ما أصابه؛ فكُسِرتْ
رَباعيّته، وشُجَّ في رأسه، وسقط في حفرة،
وأُشيع أنه قد مات.
فأصاب
المسلمين مصيبة عظيمة، ولكن أهل الإيمان
لا يتغيّر موقفهم ولا يتزحزح أبداً مهما
بلغ الأمر، لا تضعُف عزيمتهم، اجتمعوا
حول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَذُبُّون عنه، ويحمونه من
سهام المشركين، والمعركة لا تزال مستمرة،
والرسول مشجوج، والمِغْفَر قد هشم على
رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمّ
انتهت المعركة، وأُعلن أنّ محمداً صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُقتل،
فحينئذ فرح المسلمون فرحاً شديداً، واغتاظ
المشركون غيظاً شديداً.
فانصرف
المشركون إلى مكّة، والنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يدفنوا
الشهداء، وأن يدفنوا الاثنين والثلاثة
في قبرٍ واحد، لكثرة الأموات، ولضعف
المسلمين في هذه الحالة، فدفنوهم في مكان
الشهداء المعروف عند أحد، وحملوا الجرْى
إلى المدينة.
ولَمْا
وصلوا إلى المدينة جاءهم مندوب من أبي
سفيان بأنه سيعيد الكرّة عليهم، ويرجع
عليهم ويستأصل بقيّتهم، فما زادهم ذلك
إلاَّ إيماناً، وأمر الرسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين خرجوا
معه إلى أُحُد أن يخرجوا ولا يخرج معهم
غيرهم، فخرجوا مع الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجراحهم ونزلوا في
مكان يقال له:
(حمراء
الأسد)
- قريب
من المدينة -
ينتظرون
الكفّار.
لما
بلغ أبا سفيان ومن معه أن الرسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج في
أَثَرهم وفي طلبهم أصابهم الرعب، وقالوا:
ما
خرجوا إلاَّ وفيهم قوة.
فمضوا
إلى مكة خائفين من الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجع المسلمون إلى
المدينة سالمين.
وأنزل
الله سبحانه وتعالى قوله:
{الَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ
بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172))
الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}
.
هذا
قول أبي سفيان أننا نأتي ونقضي على بقيّتهم
{فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ (174)
} .
هذه
ثمرات التوكُّل على الله سبحانه وتعالى،
وهذه ثمرات الاعتماد على الله، كما صارت
النار برْداً وسلاماً على إبراهيم؛ صارت
هذه المعركة وهذه التخويفات برداً وسلاماً
على صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.