*[ من درر الإمام ابن القيم رحمه الله]*
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
إن الله سبحانه لم يخلق خلقه سُدًى هَمَلا، بل جعلهم مورداً للتكليف، ومحلاً للأمر والنهي، وألزمهم فَهْم ما أرشدهم إليه مجملاً ومفصلاً ، وقسمهم إلى شقي وسعيد، وجعل لكل واحد من الفريقين منزلاً ، وأعطاهم مواد العلم والعمل: من القلب، والسمع، والبصر، والجوارح، نعمة منه وتفضلا.
فمن استعمل ذلك فى طاعته، وسلك به طريق معرفته على ما أرشد إليه ولم يبغ عنه عدولاً، فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك، وسلك به إلى مرضاة الله سبيلا.
ومن استعمله في إرادته وشهوته ولم يرع حق خالقه فيه يخسر إذا سئل عن ذلك، ويحزن حزناً طويلا ، فإنه لا بد من الحساب على حق هذه الأعضاء لقوله تعالى: {إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] .
ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف فى الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله". فهو ملكها، وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما كان يأتيها من هديه، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته، وهو المسؤول عنها كلها "لأن كل راع مسؤول عن رعيته" كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون ، والنظر فى أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون.
ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق، وأمده من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصائده ومكائده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول فى ضمان {إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولها يسبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين ، وإشعار القلب إخلاص العمل ودوام اليقين، فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند الله من المقربين، وشمله استثناء {إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] .
[(إغاثة اللهفان/ص٣٦_٣٨/ت الشيخ الألباني والحلبي)]