- للإمام ابن القيم رحمه الله/ من كتاب إغاثة اللهفان -
.
.
.
.
أجمع المسلمون على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهى عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبى عليه الصلاة والسلام بالنهى عن ذلك والتغليظ فيه. فقد صرح عامة الطوائف بالنهى عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعى بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة. والذى ينبغى أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهى عنه.
ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى قال:
سَمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلم قبل أنْ يَموتَ بخمْسٍ وَهوَ يقول: "إِنى أبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُون لِى مِنْكمْ خَلِيلا. فَإنَّ اللهَ تَعَالى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلا، كما اتّخَذَ إِبْرَاهِيم خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذا مِنْ أُمَّتىِ خَلِيلاً لاتّخَذْتُ أَبَا بكْرٍ خَليلا ألا وَإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلاَ تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فإِنى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذلِكَ".
وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لمّا نُزلَ بِرَسُولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ: وَهُوَ كَذلِكَ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِم مَسَاجِدَ، يُحذرُ مَا صَنَعُوا" متفق عليه.
وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قالَ: " قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
وفى رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى آخر حياته، ثم إنه لعن وهو فى السياق(1) من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلمَ فى مَرَضِه الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، وَلَوْلا ذلِكَ لأبْرِزَ قَبُرهُ غَيْرَ أنَّهُ خُشِىَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً" متفق عليه.
وقولها: "خشى" هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره.
وروى الإمام أحمد فى مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِنْ شِرَار النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجدَ".
وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ" رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عباس قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَليْه وسَلمَ زَائرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" رواه الإمام أحمد وأهل السنن.(2)
وفى صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر، فقال: القبر، القبر. وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضى الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس رضى الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه، فإنه لعله لم يره، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه. فلما نبهه عمر رضى الله تعالى عنه تنبه.
وقال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرْضُ كُلهَا مَسْجِدٌ إِلا الْمَقبَرَةَ وَالْحَمامَ".
رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة، وصححه أبو حاتم بن حبان وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلى وبين القبلة.
فروى مسلم فى صحيحه عن أبى مرثد الغنوى رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إِلَيْهَا".
وفى هذا إبطال قول من زعم أن النهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شئ عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم فى قبورهم طريون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
ومنها: أن موضع مسجده صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين، فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجداً: ولم ينقل ذلك التراب، بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه، كما ثبت فى الصحيحين عن أنس بن مالك قال:
"لَمّا قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم المدِينَة فَنزَلَ بأَعْلَى المدِينَةِ فى حَىّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، فأَقَامَ النّبىُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فيهِمْ أَرْبَعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى مَلاء بَنىِ النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلدِى السُّيُوفَ، وَكَأَنى أَنْظُرُ إِلى النَّبى صلّى اللهُ عليْه وسلّم عَلَى رَاحِلَتهِ، وأبو بكر رِدفَهُ، ومَلأُ بَنِى النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حتى أَلْقَى بِفناءِ أبي أَيُّوبَ. وكان يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّىَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلّى فى مَرَابضِ الْغَنمِ، وَأنّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فأَرْسَلَ إِلى مَلإٍ بَنى النَّجّارِ، فَقَالَ: يَا بنِى النجّارِ، ثَامِنُونى بحَائِطِكُمْ هذَا. قَالُوا: لا واللهِ، مَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إلى اللهِ فكَانَ فيه ما أقُولُ لكُمْ: قُبُورُ المُشْرِكِينَ. وفيه خَرِبٌ. وفيه نخْل. فأمَرَ النّبىُّ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وَاله وسلّم بِقُبُورِ المشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخْرِبِ فَسُويَتْ. وَبالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وَجّعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ. وهم يَرْيَجِزُونَ، وذكر الحديث".
ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة فى القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر. فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التى لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التى كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها فى المساجد. وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله. فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة؟
ومما يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعاً.
ومنها: أنه قرن فى اللعن بين متخذى المساجد عليها وموقدي السرج عليها. فهما فى اللعنة قرينان. وفى ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها. ولهذا قرن بينهما. فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالي عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم قالوا: {لَنَتَّخذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"اللهُمَّ لا تجْعَلْ قَبْرِى وَثَناً يُعْبَدُ. اشْتَدَّ غَضبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
فذكره ذلك عقيب قوله: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد" تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم. وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد.
وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهى بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إنى أنهاكم" ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم فى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. فإن هذا وأمثاله من النبى صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان. فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.
ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن فى طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهم التى أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم. وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم.
فأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم فى صورة التعظيم لهم. قال الشافعى: "أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس".
وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرم فى كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه فقال- بعد أن ذكر حديث أبى سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت لى الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام" وحديث زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر: أن النبى صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الصلاة فى سبع مواطن(3)، وذكر منها المقبرة" قال الأثرم: إنما كرهت الصلاة فى المقبرة للتشبه بأهل الكتاب، لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد".
ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى قال:
سَمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلم قبل أنْ يَموتَ بخمْسٍ وَهوَ يقول: "إِنى أبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُون لِى مِنْكمْ خَلِيلا. فَإنَّ اللهَ تَعَالى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلا، كما اتّخَذَ إِبْرَاهِيم خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذا مِنْ أُمَّتىِ خَلِيلاً لاتّخَذْتُ أَبَا بكْرٍ خَليلا ألا وَإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلاَ تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فإِنى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذلِكَ".
وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لمّا نُزلَ بِرَسُولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ: وَهُوَ كَذلِكَ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِم مَسَاجِدَ، يُحذرُ مَا صَنَعُوا" متفق عليه.
وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قالَ: " قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
وفى رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى آخر حياته، ثم إنه لعن وهو فى السياق(1) من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلمَ فى مَرَضِه الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، وَلَوْلا ذلِكَ لأبْرِزَ قَبُرهُ غَيْرَ أنَّهُ خُشِىَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً" متفق عليه.
وقولها: "خشى" هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره.
وروى الإمام أحمد فى مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِنْ شِرَار النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجدَ".
وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ" رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عباس قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَليْه وسَلمَ زَائرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" رواه الإمام أحمد وأهل السنن.(2)
وفى صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر، فقال: القبر، القبر. وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضى الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس رضى الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه، فإنه لعله لم يره، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه. فلما نبهه عمر رضى الله تعالى عنه تنبه.
وقال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرْضُ كُلهَا مَسْجِدٌ إِلا الْمَقبَرَةَ وَالْحَمامَ".
رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة، وصححه أبو حاتم بن حبان وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلى وبين القبلة.
فروى مسلم فى صحيحه عن أبى مرثد الغنوى رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إِلَيْهَا".
وفى هذا إبطال قول من زعم أن النهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شئ عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم فى قبورهم طريون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
ومنها: أن موضع مسجده صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين، فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجداً: ولم ينقل ذلك التراب، بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه، كما ثبت فى الصحيحين عن أنس بن مالك قال:
"لَمّا قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم المدِينَة فَنزَلَ بأَعْلَى المدِينَةِ فى حَىّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، فأَقَامَ النّبىُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فيهِمْ أَرْبَعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى مَلاء بَنىِ النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلدِى السُّيُوفَ، وَكَأَنى أَنْظُرُ إِلى النَّبى صلّى اللهُ عليْه وسلّم عَلَى رَاحِلَتهِ، وأبو بكر رِدفَهُ، ومَلأُ بَنِى النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حتى أَلْقَى بِفناءِ أبي أَيُّوبَ. وكان يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّىَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلّى فى مَرَابضِ الْغَنمِ، وَأنّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فأَرْسَلَ إِلى مَلإٍ بَنى النَّجّارِ، فَقَالَ: يَا بنِى النجّارِ، ثَامِنُونى بحَائِطِكُمْ هذَا. قَالُوا: لا واللهِ، مَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إلى اللهِ فكَانَ فيه ما أقُولُ لكُمْ: قُبُورُ المُشْرِكِينَ. وفيه خَرِبٌ. وفيه نخْل. فأمَرَ النّبىُّ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وَاله وسلّم بِقُبُورِ المشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخْرِبِ فَسُويَتْ. وَبالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وَجّعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ. وهم يَرْيَجِزُونَ، وذكر الحديث".
ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة فى القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر. فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التى لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التى كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها فى المساجد. وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله. فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة؟
ومما يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعاً.
ومنها: أنه قرن فى اللعن بين متخذى المساجد عليها وموقدي السرج عليها. فهما فى اللعنة قرينان. وفى ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها. ولهذا قرن بينهما. فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالي عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم قالوا: {لَنَتَّخذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"اللهُمَّ لا تجْعَلْ قَبْرِى وَثَناً يُعْبَدُ. اشْتَدَّ غَضبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
فذكره ذلك عقيب قوله: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد" تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم. وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد.
وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهى بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إنى أنهاكم" ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم فى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. فإن هذا وأمثاله من النبى صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان. فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.
ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن فى طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهم التى أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم. وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم.
فأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم فى صورة التعظيم لهم. قال الشافعى: "أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس".
وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرم فى كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه فقال- بعد أن ذكر حديث أبى سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت لى الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام" وحديث زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر: أن النبى صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الصلاة فى سبع مواطن(3)، وذكر منها المقبرة" قال الأثرم: إنما كرهت الصلاة فى المقبرة للتشبه بأهل الكتاب، لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد".
_______________________________
(1): سياق الموت عند النزع.(منقول من الحاشية)
(2): قال الإمام الألباني: الفقرة الثانية لا تصح. (من حاشية الكتاب بتخريج الإمام الألباني)
(3): لا يصح إسناده كما بينه الإمام الألباني في الإرواء287(منقول من الحاشية)
(2): قال الإمام الألباني: الفقرة الثانية لا تصح. (من حاشية الكتاب بتخريج الإمام الألباني)
(3): لا يصح إسناده كما بينه الإمام الألباني في الإرواء287(منقول من الحاشية)