قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد(2/244-245): قال
ابن القيِّم:
"فمن
ظنّ أنّه يُديل الباطل على الحقّ إدالة
مستقرّة يضمحلّ معها الحقّ، أو أنكر أن
يكون ما جرى بقضائه وقدره أو
أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحقّ
عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجرّدة؛
فذلك ظنُّ الذين كفروا"(1) من
ظنّ أن الله يُديل الباطل على الحق إدالةً
مستقرّة، الله قد يُديل الباطل على الحقّ
أحياناً، لكن هذه الإدالة مؤقتّة وليست
مستقرّة، وإدالتُه على الحقّ لحكمة، وهي
أنّ أهل الحق يتنبّهون ويتداركون الخطأ
والنقص الذي حصل فيهم:
{وَلِيُمَحِّصَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا}
،
يعني:
يطهِّرهم
من رجس الذنوب والمعاصي بما نزل عليهم من
العُقوبة، كما قال سبحانه وتعالى:
{مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}
،
ولَمّا شقّ على أبي بكر-
رضي
الله تعالى عنه-
قال:
أيُّنا
لم يعمل سوءاً يا رسول الله؟، فقال رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"ألستَ
تحزَن؟، ألستَ تَنْصَب؟، ألستَ تُصيبُك
اللأواء؟ "،
قال:
بلى،
قال:
"فذلك
ما تُجزون به".
فالله
جل وعلا قد يُجازي عبدَه المؤمن وهو
يحبُّه، ويعاقبه لأنّه يحبّه؛ من أجل أن
يخلِّصه من هذا الذنب، حتى يوافيَ ربّه
طاهراً نقيًّا ويدخُل الجنّة.
أمّا
الكافر عدوُّ الله فإنّ الله يصبُّ عليه
النعم للاستدراج ويُمسكُ عنه العُقوبة
حتى يوافي القيامة وهو محمّلٌ بالذّنوب
فيكون من أهل النّار، هذه حكمة الله سبحانه
وتعالى.
بعض
النّاس يقول:
لماذا
الكُفّار ينعَمون بالحضارة والصناعات،
والجوّ الطيِّب، والبيئة الطيِّبة،
والفواكه، والأشجار، والمحاصيل، والمسلمون
في هذه الحالة، ثم يذهب به ظنّ السَّوء
إلى أن يظنّ أنّ الكفّار على الحقّ، وأنّ
الله راضٍ عنهم،
وأنّ المسلمين ليسوا على حق وأنّ الله
ساخطٌ عليهم، ثم قد يرتدّ عن الدين.
فالله
جل وعلا يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحبّ،
وأما الدين فإنّه لا يُعطيه إلاّ لمن
يحبّ.
وليس
إنزال النعم أو إنزال النِّقَم دليلاً
على المحبّة أو على البُغض والكرَاهة
وإنّما هو ابتلاء وامتحان، فقد يعاقبُ
الله من يحبُّه وقد يُنعم على من يُبغِضُه
في هذه الدّنيا:
{وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
} .
فهذا
يجب أن يكون من المؤمن على بال، لكن ما
يُدرك هذا إلاّ أهل الفقه وأهل العلم وأهل
البصيرة وأهل النظر الصّائب.
_________________
(1): فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا
يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم
بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر
دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد،
والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل
معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم
بعده أبدا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه
إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته
ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته
تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن
تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم
لأعدائه المشركين به، فمن
ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا
عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون
ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته
وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر
ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة
وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك
إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية
مطلوبة هي أحب إليه من فوتها، وأن تلك
الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج
تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب،
وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى، ولا
أنشأها عبثا، ولا خلقها باطلا، {ذلك
ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} وأكثر
الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما
يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم
عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته،
وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته
وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء.زاد المعاد لابن القيم(3/205-206)