قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد(2/315-320): قال الله تعالى: {وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ
جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
(67)
} هذه
آية عظيمة فيها عبر وعِظات،
وأنّ هذا الكون بسمائه وأرضه وجباله وشجره
ومائه وثرائه وجميع المخلوقات يجعلها
الله سبحانه وتعالى يوم القيامة على
أصابعه ويجمعها في كفيه سبحانه وتعالى،
كمَا صحت بذلك الأدلة، فهذا يدلّ على عظمة
الله سبحانه وتعالى، وصغر هذه المخلوقات
الهائلة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى
ويدلّ عل عظمته وكبريائه وجَبَروته
سبحانه، ولهذا قال جل وعلا:
{وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
أي:
ما
عظّموه حقّ تعظيمِه.
{وَالْأَرْضُ
جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
هذا
بيان لعظمته سبحانه وتعالى.
{وَالسَّمَاوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
من
كان يقدر على هذه الأمور فإنّه لا أعظم
منه سبحانه وتعالى، كلُّ الكون-
بمن
فيه-
كلُّه
حقير وصغير بالنّسبة إلى خالقه سبحانه
وتعالى.
وقوله
تعالى:
{وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
هذا
يشمل كلّ من تنقّص الله تعالى فإنّه ما
قدره حقّ قدره، فيدخل في ذلك الجاحدون
المعطِّلون الذين ينفون وُجود الله تعالى،
وهم الدهرية الذين يقولون:
{مَا
هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا
نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا
إِلَّا الدَّهْرُ}
،
يقولون:
ليس
لنا ربّ يتصرّف فينا، وإنّما هذا الوُجود
إنّما هو نتيجة الطّبيعة والصُّدفة ليس
له ربٌّ أوجده وخلقه، وإنّما يتفاعل هذا
الوُجود بنفسه، فتتكوّن هذه الأشياء من
تفاعُل هذا الكون، ويجحدون وُجود الخالق
سبحانه وتعالى، وهؤلاء يقال لهم:
المعطِّلة
الدهريّة.
وقد
ردّ الله تعالى عليهم بقوله:
{أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ (35)
أَمْ
خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بَلْ لا يُوقِنُونَ (36)
} ،
وردّ عليهم بقوله:
{وَمَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ}
،
لأن القول لابد أن يكون مستنداً إلى
بُرهان، وأين بُرهانهم؟ لأن البرهان إنما
على أنّ هذا الخلْق له خالق، هذا هو
البُرهان الذي تقرّه الفطر والعقول.
فلا
يُتصوّر ولا يُعقل أن يوجَد مخلوق بدون
خالق، فلا عاقل في الدّنيا يتصوّر أنّ
هذا الكون وُجد بدون خالق، لأن هذا من باب
العبث بالعُقول، هل تجدون -
مثلاً-
أنّ
قصراً تكوّن بدون عمال وبدون بانٍ؟، هذا
محال هل تجدون-
مثلاً-
شجرة
وُجدت بدون أسباب وبدون بِذار وبدون سقي؟،
لابدّ من أسباب لوجودها.
وهذه
الآية مفحمة لكل ملحد:
{أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}
هل
يُعقل أنّ الخلق يوجد بدون خالق؟، لا،
هذا لا يقولُه عاقل.
وإذا
كان الكون لابدّ له من خالق فمن هو هذا
الخالق؟، هل هو أنتم؟ {أَمْ
هُمُ الْخَالِقُونَ}
يعني:
أنتم
الذين خلقتم السماء، خلقتم الأرض، خلقتم
الشجّر، خلقتم البحار، بيِّنوا لنا الذي
خلق هذه الأشياء، وضِّحوا لنا، لا يستطيع
أحد مهما بلغ من الكفر والإلحاد، لا يستطيع
أن يدّعي أنّه خلق السماء، وخلق الأرض،
{أَمْ
خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بَلْ لا يُوقِنُونَ (36)
} ،
{أَرُونِي
مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}
،
{هَذَا
خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}
،
فكلّ الكفرة والمشركين لا أحد منهم ادّعى
أنّ معبوده من دون الله خلقَ شيئاً من هذا
الكون، أبداً، قال سبحانه وتعالى:
{أَمْ
جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا
كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
.
فالله
جل وعلا هو المنفرد بالخلْق، ولا أحد
نازعَ الله في ذلك من الجبابرة والمتكبِّرين
والكَفرة والملحدين، لا أحد ادّعى أنه
خلق بعوضة:
{إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
،
هذا تحدٍّ من الله سبحانه وتعالى، تحدِّ
لجميع الخلق بمن فيهم المَهَرة والمهندسون
والخُبراء أن يخلُقوا ذباباً، ولا يزال
التحدِّي قائماً إلى يوم القيامة، فهذا
دليل على أنّ الخالق هو الله.
أوّلاً:
الخلْق
لابدّ له من خالق، هذه بداهة عقلية لا
ينازع فيها إلاّ مكابر.
ثانياً:
ما
أحد ادّعى أنّه خلق شيئاً من السموات ولا
من الأرض، والتحدِّي قائم إلى يوم القيامة.
فالملاحدة
ما قدروا الله حقَّ قدره، الذين نفوا
وُجود الله ووجود الخالق.
وكذلك
المشركون الذي أقرّوا أن الخالق الرّازق
المحيي المدبِّر هو الله سبحانه وتعالى،
واعترفوا بتوحيد الرّبوبية، ولكنّهم
خالفوا في العبادة، وخالفوا في توحيد
الألوهيّة، فعبدوا مع الله غيره من الأصنام
والأحجار والأشجار والقبور والأضرحة،
هؤلاء ما قدروا الله حقّ قدره، حيث إنّهم
أشركوا معه غيرَه في عبادته، ممن لا يخلُق
ولا يرزق ولا يملك نفعاً ولا ضرًّا ولا
موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً، هؤلاء ما
قدروا الله حقّ قدره، حيث سوّوا به خلقاً
من خلقه، وجعلوهم معبودين معه، يذبحون
لهم، وينذُرون لهم، ويتبرّكون بهم،
ويطوفون بقبورهم، ويتبرّكون بالأحجار
والأشجار، ويعبدون الأصنام، جعلوا هذه
الأصنام والجمادات، وجعلوا هؤلاء الأموات
الرُّفات في القبور جعلوهم شركاء لله في
العبادة، هؤلاء ما قدَروا الله حقّ قدره
سبحانه وتعالى.
وكذلك
ما قدر الله حقّ قدره مَن جحد الأسماء
والصّفات، فمن أنكر الأسماء والصّفات
الّتي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له
رسولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أو تأوّلها على غير معناها وألحد فيها؛
ما قدَر الله حقّ قدره، فالذي قال:
"إنّ
الله لا يوصف بصفات، ولا يسمّى بأسماء،
وإنّما هذه مجازات لا حقيقة لها، فلا يوصف
الله عنده بأنّ له يدين، ولا أنّ له وجهاً،
ولا يوصف الله بأنّه في العلو عالٍ على
خلقه مستوٍ على عرشه"،
ثم راح يؤوِّل هذه الصّفات إلى معانٍ لا
تحتملُها، فهذا ما قدَر الله حقّ قدره
سبحانه وتعالى، حيث إنّه ألحد في أسمائه،
وألحد في صفاته، ما قدر الله حقّ قدره،
ويدخُل في ذلك الجهميّة والمعتزلة
والأشاعرة والماتوريديّة، وكلّ من ألحد
في الأسماء والصّفات أو جحد بعضها أو
شيئاً منها فإنّه ما قدَر الله حقّ قدره
ولا عظّمه حقّ تعظيمه، ويدخل في ذلك كلّ
من خالف في الأسماء والصّفات فإنّه ما
قدَر الله حق قدره ولا عظّمه حق تعظيمه
ولا تأدّب مع ربه سبحانه وتعالى، بل صار
يكذِّب بما وصف الله به نفسه وسمّى به
نفسه، فيقول:
هذا
غير صحيح، هذا مجاز، هذا ليس بحقيقة، إلى
غير ذلك من مقالاتهم الباطلة، {وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
.
كذلك
ما قدر الله حقّ قدره من نفى القدر:
فالقدريّة
ما قدروا الله حقّ قدره، حيث نفوا القدر،
وقالوا:
"إنّ
الأشياء توجد بدون قدر الله وأنّها أُنف-
يعني:
تحدُث
بغير قدر الله، وإنّما العبد هو الذي يخلق
فعل نفسه دون أن يكون لله قدرٌ سابق وعلمٌ
سابق بهذه الأشياء، {مَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
.
ويدخل
في ذلك كلّ من ألحد في القدر من الجبرية
ومن القدريّة، كلّهم ما قدروا الله حقّ
قدره.
أيضاً:
ما
قدر الله حقّ قدره مَن عصى الله وارتكب
ما حرّم الله من المعاصي وترك ما أوجب
الله من الطّاعات، ما قدر الله حقّ قدره،
لأنّه خالف أمره سبحانه وتعالى، ولا شك
أن من عصى مخلوقاً فقد تنقّصه فكيف بمن
عصى الخالق، {وَلِلَّهِ
الْمَثَلُ الْأَعْلَى}
لو
أنّ إنساناً تمرّد على أوامر ملِك من
الملوك وأبى أن ينفِّذ ما أمر به، فيكون
ما قدر ذلك الملِك حق قدره، بل تنقّص هذا
الملِك حيث إنّه لم يلتزم بأوامره ونواهيه،
فكيف بالذي خالف أمرَ الله سبحانه وتعالى،
وخالف نواهيه، وارتكب المنهي وترك الواجب؟،
هل يكون هذا مقدِّراً لله حقّ قدره؟.
إذاً
فكلّ مخالف لأوامر الله سبحانه وتعالى
ونواهيه وأحكامه فإنّه ما قدر الله حقّ
قدره، حيث لم يمتثل شرعَ الله، ومن لم
يمتثل شرع الله فإنّه لم يقدُره حقّ قدره.
كذلك
من حكم بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين
الوضعيّة بديلاً عن الأحكام الشّرعية
التي شرعها الله لعباده ما قدر الله حقّ
قدره، يقول-
بلسان
الحال أو بلسان المقال-:
إنّ
شرعك لا يصلُح للبشر، وإنّما يصلُح للبشر
القوانين البشرية التي وضعها المخلوق،
هكذا، ما قدر الله حقّ قدره سبحانه.
والنّاس
يتفاوتون في هذا، فمنهم من خالف مخالفة
كبيرة ومنهم من هو دون ذلك بحسب مخالفتهم،
كلّ من خالف الله أي نوع من المخالفة فإنّه
ما قدر الله حقّ قدره، وإنّما قدر الله
حقّ قدره من امتثل أوامره ونواهيه وحكم
بكتابِه وعبد الله وحده ولم يُشرك به
شيئاً، هذا هو الذي قدَر الله حق قدْره،
امتثل أمره واجتنب نهيه وآمن به سبحانه
وتعالى ووصفه بما وصف به نفسَه وسمّاه
بما سمّى به نفسه أو وصف وسمّى به رسولُه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا
هو الذي قدر الله حقّ قدره.
كذلك
من جحد الرّسالة وقال:
إنّ
الله لا يبعث رسولاً من البشر فهذا ما قدر
الله حقّ قدره، لأنّه اتهم الله سبحانه
وتعالى بأنّه ترك عباده بدون هداية ولا
بيان، ولا بيّن لهم طريق الحقّ من طريق
الباطل، ولا وضّح لهم، ولهذا يقول جل
وعلا:
{وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ
قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ
الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً
لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ
تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا
أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ
ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
(91)
} ،
فالذي يجحد الرّسالة ويقول:
"لا
يمكن أن يبعث الله بشراً"،
وإنّما يقترح على الله أن يبعث الملائكة
إلى البشر؛ فهذا ما قدر الله حق قدره.
وكذلك
من جحد البعث، وزعم أن الله لا يبعث عبيده
ليجازيهم بأعمالهم:
{لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا
بِالْحُسْنَى (31)
} ،
فهذا ما قدر الله حق قدره، ووصفه بالعبث،
وأن الله خلق الخلق عبثاً، وتركهم سدىً،
يعملون بلا نتيجة، لا فرق بين المحسن
والمسيء والمطيع والعاصي، تعالى الله
عما يقولون علواً كبيراً.
وكذلك
من جحد كلام الله وقال:
"إنّ
الله لا يتكلّم، وهذا الكتاب الذي هو
التوراة والإنجيل والقرآن والزَّبور
وغيرها من كتب الله ليس هو كلامُ الله،
لأنّ الله لا يتكلم، وإنّما هو كلامُ
البشر"،
ومنهم من يقول:
"المعنى
من الله واللّفظ من البشر"،
هذا ما قدَر الله حقّ قدره.
الحاصل؛
أنّ هذا بابٌ واسع، وأنّ قوله تعالى:
{وَمَا
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
يشمل
كلّ من خالف في أمور العقائد وأمور الأحكام
فإنّه ما قدَر الله حقّ قدره.