قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:
غُرْبَةُ
أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ
بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ، وَهِيَ الْغُرْبَةُ
الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهَا،
وَأَخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ
بِهِ:
أَنَّهُ
بَدَأَ غَرِيبًا وَأَنَّهُ سَيَعُودُ
غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَأَنَّ أَهْلَهُ
يَصِيرُونَ غُرَبَاءَ.
وَهَذِهِ
الْغُرْبَةُ قَدْ تَكُونُ فِي مَكَانٍ
دُونَ مَكَانٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ،
وَبَيْنَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَلَكِنَّ
أَهْلَ هَذِهِ الْغُرْبَةِ هُمْ أَهْلُ
اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَأْوُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ
يَنْتَسِبُوا إِلَى غَيْرِ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَمْ يَدْعُوا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ
بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَارَقُوا
النَّاسَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ،
فَإِذَا انْطَلَقَ النَّاسُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مَعَ آلِهَتِهِمْ بَقُوا
فِي مَكَانِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ:
أَلَا
تَنْطَلِقُونَ حَيْثُ انْطَلَقَ النَّاسُ؟
فَيَقُولُونَ:
فَارَقْنَا
النَّاسَ وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهِمْ
مِنَّا الْيَوْمَ،
وَإِنَّا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي
كُنَّا نَعْبُدُهُ.
فَهَذِهِ
الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا،
بَلْ وَآنَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اسْتَوْحَشَ
النَّاسُ، وَأَشَدُّ مَا تَكُونُ
وَحْشَتُهُ إِذَا اسْتَأْنَسُوا،
فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنْ عَادَاهُ
أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفَوْهُ (3/186).
وقال: مِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ: التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ، إِذَا رَغِبَ
عَنْهَا النَّاسُ، وَتَرْكُ مَا
أَحْدَثُوهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ
الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ وَتَجْرِيدُ
التَّوْحِيدِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ
أَكْثَرُ النَّاسِ، وَتَرْكُ الِانْتِسَابِ
إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،
لَا شَيْخَ وَلَا طَرِيقَةَ وَلَا مَذْهَبَ
وَلَا طَائِفَةَ، بَلْ هَؤُلَاءِ
الْغُرَبَاءُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى
اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ،
وَإِلَى رَسُولِهِ بِالِاتِّبَاعِ لِمَا
جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ
الْقَابِضُونَ عَلَى الْجَمْرِ حَقًّا،
وَأَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ كُلُّهُمْ
لَائِمٌ لَهُمْ.
فَلِغُرْبَتِهِمْ
بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ:
يَعُدُّونَهُمْ
أَهْلَ شُذُوذٍ وَبِدْعَةٍ، وَمُفَارَقَةٍ
لِلسَّوَادِ الْأَعْظَم(3/187-188).