قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين(3/188-189):
وَمَعْنَى
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«هُمُ
النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ»
أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ
وَأَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى أَدْيَانٍ
مُخْتَلِفَةٍ، فَهُمْ بَيْنَ عُبَّادِ
أَوْثَانٍ وَنِيرَانٍ، وَعُبَّادِ صُوَرٍ
وَصُلْبَانٍ، وَيَهُودٍ وَصَابِئَةٍ
وَفَلَاسِفَةٍ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ
فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ غَرِيبًا، وَكَانَ
مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَاسْتَجَابَ
لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ غَرِيبًا فِي
حَيِّهِ وَقَبِيلَتِهِ وَأَهْلِهِ
وَعَشِيرَتِهِ.
فَكَانَ
الْمُسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ
نُزَّاعًا مِنَ الْقَبَائِلِ، بَلْ
آحَادًا مِنْهُمْ تَغَرَّبُوا عَنْ
قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ،
وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانُوا
هُمُ الْغُرَبَاءُ حَقًّا، حَتَّى ظَهَرَ
الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ
وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا،
فَزَالَتْ تِلْكَ الْغُرْبَةُ عَنْهُمْ،
ثُمَّ أَخَذَ فِي الِاغْتِرَابِ
وَالتَّرَحُّلِ، حَتَّى عَادَ غَرِيبًا
كَمَا بَدَأَ، بَلِ الْإِسْلَامُ الْحَقُّ
الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ هُوَ الْيَوْمَ أَشَدُّ
غُرْبَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ،
وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ وَرُسُومُهُ
الظَّاهِرَةُ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ،
فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ غَرِيبٌ
جِدًّا، وَأَهْلُهُ غُرَبَاءُ أَشَدُّ
الْغُرْبَةِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَكَيْفَ
لَا تَكُونُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ
جِدًّا غَرِيبَةً بَيْنَ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، ذَاتَ أَتْبَاعٍ
وَرِئَاسَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَوِلَايَاتٍ،
وَلَا يَقُومُ لَهَا سُوقٌ إِلَّا
بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَإِنَّ نَفْسَ مَا جَاءَ بِهِ يُضَادُّ
أَهْوَاءَهُمْ وَلَذَّاتِهِمْ، وَمَا
هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَاتِ
وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى
فَضِيلَتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَالشَّهَوَاتِ
الَّتِي هِيَ غَايَاتُ مَقَاصِدِهِمْ
وَإِرَادَاتِهِمْ؟
فَكَيْفَ
لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ السَّائِرُ
إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ
غَرِيبًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ،
وَأَطَاعُوا شُحَّهُمْ، وَأُعْجِبَ
كُلٌّ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ؟ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «مُرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ
الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ
شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا
وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ
كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ
أَمْرًا لَا يَدَ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْكَ
بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ
وَعَوَامَّهُمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ
أَيَّامًا صَبْرُ الصَّابِرِ فِيهِنَّ
كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ»
.
وَلِهَذَا
جُعِلَ لِلْمُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي
هَذَا الْوَقْتِ إِذَا تَمَسَّكَ
بِدِينِهِ:
أَجْرُ خَمْسِينَ
مِنَ الصَّحَابَةِ...
وَهَذَا
الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ
لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ،
وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَيْنَ
ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ.
فَإِذَا
أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ
رَزَقَهُ اللَّهُ بَصِيرَةً فِي دِينِهِ،
وَفِقْهًا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ،
وَفَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَأَرَاهُ مَا
النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ
وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَنَكُّبِهِمْ
عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي
كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ،
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا
الصِّرَاطَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ
عَلَى قَدْحِ الْجُهَّالِ وَأَهْلِ
الْبِدَعِ فِيهِ، وَطَعْنِهِمْ عَلَيْهِ،
وَإِزْرَائِهِمْ بِهِ وَتَنْفِيرِ
النَّاسِ عَنْهُ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْهُ،
كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
يَفْعَلُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِ وَإِمَامِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَمَّا إِنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ،
وَقَدَحَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ:
فَهُنَالِكَ
تَقُومُ قِيَامَتُهُمْ وَيَبْغُونَ لَهُ
الْغَوَائِلَ وَيَنْصِبُونَ لَهُ
الْحَبَائِلَ وَيَجْلِبُونَ عَلَيْهِ
بِخَيْلِ كَبِيرِهِمْ وَرِجْلِهِ.
فَهُوَ
غَرِيبٌ فِي دِينِهِ لِفَسَادِ
أَدْيَانِهِمْ، غَرِيبٌ فِي تَمَسُّكِهِ
بِالسُّنَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْبِدَعِ،
غَرِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ لِفَسَادِ
عَقَائِدِهِمْ، غَرِيبٌ فِي صِلَاتِهِ
لِسُوءِ صِلَاتِهِمْ، غَرِيبٌ فِي
طَرِيقِهِ لِضَلَالِ وَفَسَادِ طُرُقِهِمْ،
غَرِيبٌ فِي نِسْبَتِهِ لِمُخَالَفَةِ
نَسَبِهِمْ، غَرِيبٌ فِي مُعَاشَرَتِهِ
لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعَاشِرُهُمْ عَلَى
مَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ:
فَهُوَ
غَرِيبٌ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ
لَا يَجِدُ مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعِدًا
وَلَا مُعِينًا فَهُوَ عَالِمٌ بَيْنَ
جُهَّالٍ، صَاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أَهْلِ
بِدَعٍ، دَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
بَيْنَ دُعَاةٍ إِلَى الْأَهْوَاءِ
وَالْبِدَعِ، آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ
نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ بَيْنَ قَوْمٍ
الْمَعْرُوفُ لَدَيْهِمْ مُنْكَرٌ
وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفٌ.