قال
الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه
لكتاب التوحيد(2/270-281) وعند
شرحه على قول المؤلف: وقول الله تعالى:
{وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ}. عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعتُ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول:
"الحلف
منفقة للسلعة، ممحقة للكسب"
أخرجاه.
وعن
سلمان:
أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال:
"ثلاثة
لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب
أليم ... وذكر منهم "ورجل جعل اللهَ
بضاعته، لا يشترى إلاّ بيمينه، ولا يبيع
إلاّ بيمينه"
رواه
الطبراني بسند صحيح.
وفي "الصحيح" عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال
عمران:
فلا
أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟،
"ثم
إن بعدكم قوم يشهدون ولا يُستشهدون...الحديث".
وعن
ابن مسعود:
أن
النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال:
"خير
النّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم
تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته":
الاستهانة
بالحلف بالله تنقِّصُ التّوحيد، كما أنّ
تعظيم الحلف بالله من كمال التّوحيد.
والحلف هو:
تأكيد
شيء بذكر معظَّم بأحد حروف القسم، التي
هي:
الواو
والباء والتّاء.
وكثرة
الحلف معناها الإكثار من الأيمان في كلّ
مناسبة، وقد يكون في غير داع لليمين إلاّ
التغرير بالنّاس وخداع النّاس كحالة
المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم:
{وَيَحْلِفُونَ
عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
وقال
الله سبحانه وتعالى:
{وَلا
تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
} ،
والحلاَّف:
كثير
الحلف.
والله
جل وعلا ذكر ذلك من صفات المنافقين، فقال
فيهم:
{وَلَيَحْلِفُنَّ
إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
،
قال تعالى:
{اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}
يعني:
سُتْرة
يتستّرون بها أمام النّاس ليصدِّقوهم،
وكلّما قل الإيمان أو عدم الإيمان في
القلب حصل التهاوُن باليمين والحلف.
ذكر
العلماء عدّة تفاسير لهذه اللّفظة:
{وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ}
على
قولين:
القول
الأول:
أنّ
معنى {وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ}
،
أي:
لا
تحلفوا، نهيٌ عن الحلف، فلا يخلف الإنسان
إلاّ إذا دعت إلى ذلك حاجة، ويكونُ صادقاً
في يمينه، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
"من
حلف بالله فليصدُق، ومن حُلف له بالله
فليرض، ومن لم يرض فليس من الله".
فمعنى
قوله تعالى:
{وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ}
أمرٌ
بحفظها يتضمَّن النّهي عن الحلف إلاّ إذا
دعت إلى ذلك حاجة، كأن يطلب منه القاضي
اليمين لخصمه، فإذا كان بارًّا وصادقاً
فليحلف على نفي ما ادّعاه عليه خصمُه، أو
دعت حاجةٌ إلى اليمين ليُزيل شكوكاً حصلت
لأخيه فيه، فيريد أن يبرئ نفسَه وأن يُزيل
ما في نفس أخيه بأن يحلف له وهو بارٌّ في
يمينه فهذا لحاجة، أمّا غير ذلك فإنّه
يحفظ يمينه كما يحفظ دينه.
والقول
الثاني:
{وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ}
،
أي:
بالكفّارة
إذا حَنِثْتُم فاحفظوها، يعني:
كفِّروا
عنها، فالكفّارة حفظٌ لليمين واحترامٌ
لها.
قال:
"عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعتُ
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول:
" الحلف"
أي:
اليمين.
"مَنْفَقَةٌ
للسلعة"
أي:
مروِّجة
للسِّلْعة وسببٌ لِنفَاقِها، وهو خُروجها
من يد صاحبها إلى الزّبائن، لأنّ النَّفَاق،
معناه:
الخُروج،
ومنه سُمّيت النفقة نفقة لأنّها تَخْرُج
من مُلك صاحبها، ومنه سُمّي المنافق
منافِقاً لأنّه يخرُج من الدِّين.
فنَفاقُ
السلع:
رواجُها
وخُروجها من ملك صاحبها بالبَيْع، لأنّ
النّاس يصدِّقون صاحبها فيشترونها، فإذا
حلف أنّ هذه السلعة من النّوع الجيّد أو
حلف أنّ هذه السلعة سميت بكذا وكذا أو حلف
أنّه اشتراها بكذا فإنّ هذا سبب لأن
يصدِّقه النّاس وأن يشتروها منه، لأنّ
المسلمين يعظِّمون اليمين، فيُحسنون
الظنّ بهذا الحالف ويثقون به، ويقولون
لولا أنّه صادقٌ لَمَا حلف، فيقبلون ما
يقول ويعملون به، فيكونُ ذلك سبباً لرواج
سلعه.
وقوله:
"مَمْحَقَةٌ
للكسْبِ"
المَحْقُ
معناه:
الإزالة،
أي:
أنّ
اليمين تُزيل الكسْب
إمّا بأن تُزيل البركة منه، ولو بقي، ولا
ينتفع به صاحبه، وإمّا بأن تُزيل أصل
المال بالتلف والآفات، فلا يبقى عنده هذا
الكسب بل يمحقُه الله كما قال تعالى:
{يَمْحَقُ
اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}
،
فالمحق قد يكون معنوياً بمعنى محْقِ
البركة من المال، فلا يكونُ مباركاً على
صاحبه ولا ينتفع به ولا يتصدّق منه.
وقد
يكون محقاً حسيًّا بأن يُتلف الله المال
بآفةٍ، أو بسرقة، أو بنهب، أو بتسلُّط
ظالم، أو غير ذلك.
"للكسب"
الكسب
الذي يكسبه بسبب اليمين التي هي ليس بارًّا
فيها ولا صادقاً، يسببْ ذلك محق مالِه،
مع ماله عند الله من العُقوبة الآجلة في
الدّار الآخرة
وقوله في حديث سلمان: "رجل
جعلَ الله بضاعته"
هذا
عامٌّ للرجال وللنساء، ولكن ذكر الرّجال
من باب التغليب، وإلاَّ فهو عامٌ للرجال
وللنّساء".
فمعنى
"جعل
الله بضاعتَه":
أنّه
لا يشتري إلاَّ بيمينه ولا يبيع إلاَّ
بيمينه، كما فسّره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بقوله:
"لا
يشتري إلاَّ بيمينه ولا يبيع إلاَّ
بيمينِه"، فهو يُكثر من الحِلف بالله تهاوُناً،
فكان جزاؤه هذه العقوبات الثلاث:
لا
يكلِّمّه الله، ولا يزكِّيه، وله عذابٌ
أليم-
والعياذُ
بالله-،
وهذا مثل قوله تعالى:
{إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً
أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(77)
} .
الواجب
على المسلم:
أن
يصدُق في معاملته مع النّاس في بيعِه
وشرائه.
والدّنيا
مهما حصّل منها فإنّها لا تُغنيه عن
الآخرة، والكسب الحلال وإنْ كان يسيراً
فإنّ فيه البركة وفيه الخير، والكسب
الحرام وإنْ كان كثيراً فهو ممحوق لا خيرَ
فيه.
وقوله: "يشهدون
ولا يُستشهدون"
أي:
يشهدون
بدون أن تُطلب منهم الشهادة، بل يبادرون
بها، ويتسارَعون بالشهادة من دون أن تُطلب
منهم، فهذا دليل على استخفافهم بالشهادة
ومسارعتهم إليها لقلّة ديِنهم وقلّة
أمانتهم، لأنّ الشّاهد يجب عليه أن يكون
أميناً في شهادته ولا يشهد إلاّ بالحق:
قال
تعالى:
{وَلا
يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
} يعلمون
ما شهدوا به، ويتيقّنونَه، ولا يشهدون
بموجِب الخرْص والظنّ، وإنّما يشهدون
بشيء يعلمونه ويتأكّدونه.
ثم
أيضاً:
لا
يسارعون بالشهادة إلاّ إذا طُلبت منهم،
فإذا سارعوا بالشهادة قبل أن تُطلب منهم
فهذا دليلٌ على استخفافهم بها، وهذا نقضٌ
في التّوحيد.
وقوله:"قومٌ
تَسبق شهادة أحدهم يمينَه، ويمينُه
شهادَتَه"
يعني:
لا
يبالون بالشهادة، ولا يبالون بالإيمان،
بل سابقون إليها، ويسارعون إليها بدون
تحفُّظ، وبدون خوفٍ من الله عزّ وجلّ،
يحلفون ويشهدون بكثرة.
فهذا
فيه:
ذمّ
كثرة الشهادة، وذمُّ كثرة اليمين، لأنّ في
ذلك:
استخفافاً
بهما، فيكونُ منقِّصاً للتوحيد.