قال
الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه
لكتاب التوحيد(2/207-211): مسألة
التوسُّل ضلَّ فيها خلقٌ كثير من قديم
الزّمان، فالمشركون يعبُدون غيرَ الله
ويسمّون معبوداتهم وسائل إلى الله،
فيقولون:
{مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللهِ زُلْفَى} ،
قال تعالى:
{وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ
وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} ،
فهم لا يعبدون هذه المعبودات لذاتها،
لأنّهم يعلمون أنّها لا تخلُق ولا تَرزُق
ولا تُحيي ولا تُميت، وإنّما زعموا أنّها
تتوسّطُ لهم عند الله سبحانه وتعالى، من
باب الوسيلة، فردّ الله تعالى عليهم في
القرآن بأنّ هذا التوسُّل وهذا العمل
كفرٌ وشركٌ، وأنّه لم يَشْرَعْهُ سبحانه
وتعالى لعباده.
وجاء
مِن بعدهم القبوريُّون والصوفيّة ومن
قبلهم الرّافضة والباطنيّة كلُّهم نَحَوا
هذا المنحى الذي نحاه المشركون، فصاروا
يعبدون الموتى، ويستغيثون بهم، ويدعونهم
من دون الله، ويذبحون لهم، وينذُرون لهم،
ويقولون: نحن
نعلم أنّهم مخلوقون، وأنهم لا يخلُقون
ولا يرزُقون، ولكننّا اتّخذناهم وسائل
بيننا وبين الله، وربّما يحتجّون بقوله
تعالى:
{أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ،
وبقوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ
وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35)
} ،
فظنّوا أنّ الوسيلة التي أمر الله باتخاذها
إليه أنّها جعل وسائط بينهم وبين الله.
وهذا
فهمٌ باطل، لم يُرِدْهُ الله سبحانه
وتعالى، بل أنكره على المشركين، وحكم
بأنّه كُفر، وأنّه شرك، ونزّه نفسَه عنه
فقال:
{سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ،
وقال:
{إِنَّ
اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَفَّارٌ} ،
بيَّن أنّه كفر وأنه شرك، ونزّه نفسَه
عنه، فهو لم يَشْرَع لعباده أبداً أن
يجعلوا بينه وبينهم وسائط من الخلْق
يبلِّغونه حاجات عبادِه، وإنما أمر بدعائه
مباشَرة:
{وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
.
"ينزل
كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثُلث
الليل الآخر فيقول: هل
من سائل فأعطيَه؟، هل من داعٍ فأستجيب
له؟، هل من مستغفرٍ فأغفر له".
فأمر
بدعائه واستغفاره وسؤاله مباشرة، لأنه
سبحانه وتعالى:
{يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفَى} ، ويعلم أحوال عبادِه، لا يخفى عليه شيء في
الأرض ولا في السماء.
إنّما
تُتّخذ الوسائل والوسائط عند من لا يعلم
أحوالَ النّاس ولا يعلم أحوال الرعيّة
من المُلوك والرؤساء من البشر الذين تخفى
عليهم أحوال الرعايا وأحوال النّاس وحاجات
النّاس ويحتاجون إلى مَنْ يبلِّغُهم،
أما الله جل وعلا فإنّه لا يخفى عليه شيء
في الأرض ولا في السماء، ويعلم كلَّ شيء،
ويسمع كلَّ شيء، يسمع السر، ويعلم ما في
القلب، ولو لم يتكلّم الإنسان، فهو ليس
بحاجة إلى اتّخاذ مبلِّغين ومتوسِّطين
بينه وبين عباده.
أما
استدلالُهم بقوله:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ،
وبقوله:
{أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ} ،
فالآيتان لم يُرِد منها اتّخاذ وسائط بين
الله وبين عباده.
وإنّما
معنى التوسُّل في اللغة: التقرُّب،
يقال: توسّل
إليه: تقرَّب
إليه، ووسَل إليه: قَرُب
منه، والواسل: اسم
فاعل من وسل، هو المتقرِّب، والوسيلة
هي: السبب
والطريق الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى،
والذي يوصل إلى الله طاعتُه سبحانه وتعالى،
وعبادته، وما شرعه على أَلْسُن أنبيائه
ورسله. هذه
الوسيلة.
والمخلوق
وإن كان له منزلة عند الله كالأنبياء
والرُّسل- عليهم
الصلاة والسلام- والصالحين
والأولياء، لكنّ الله لم يَشْرَعْ لنا
أن نسأل بمكانتهم ومنزلتهم عنده، وإنما
أمرنا أن نتوسّل إليه بعملنا نحن لا بعمل
غيرِنا، بأن نطيع الله ونتقرّب إليه، أما
أنّ فلاناً له عند الله مكانة وله جاه،
فهذا ليس من عملنا وليس لنا فيه شيء، هذا
خاصٌ بهم، والله لم يشرع لنا أن نسأله
بجاه أحد، ولا بذات أحد، ولا بمنزلة أحدٍ
عنده سبحانه وتعالى، هذا كلُّه باطل.
وإذا
تبيَّن أنّ الوسيلة المذكورة في القرآن
هي الطّاعة، وهي التي تقرِّب إلى الله
عزّ وجلّ وتُدني من الله عزّ وجلّ، وأن
اتّخاذ الوسائط من الخلْق بين الله وبين
عبادِه لم يَشْرَعْهُ
الله ولا رسولُه؛ وجب علينا التقرّب إلى
الله بطاعته. والتوسّل
بالخلق إن صحِبَه شيءٌ من التقرُّب إلى
المخلوق كالذبح له والنّذر له؛ صار شركاً
أكبر، وإن لم يصحبه شيءٌ من التقرُّب إلى
المخلوق، وإنما هو مجرّد توسُّط بالجاه
ونحوه؛ فهذا بدعة ووسيلة إلى الشرك،
كالسؤال بالجاه، والسؤال بحقّ النّبي،
أو بمنزلة النّبي، أو بالنّبي ذاته.
فهذا
يُعتَبر بدعة في الدعاء لم يشرعها الله،
وهي وسيلة من وسائل الشرك، لأنّه إذا بدأ
يتوسّل بجاه المخلوق أو بمنزلته أو بحقِّه
عند الله؛ فإنّه يتدرّج إلى أن يعبُد هذا
المخلوق، مثل ما حصل للمشركين قديماً
وحديثاً، حيث بدأتْ مسألتهم من مجرّد
التوسُّل، وانتهت بالشّرك الأكبر المخرج
من المِلّة، نسأل الله العافية والسلامة.
وقد
تعلّق بعض المغالطين بكلمة جاءت في بعض
رسائل الشيخ: محمد
بن عبد الوهاب رحمه الله، أنه قال:
"إن
التوسل من مسائل الفقه والاجتهاد التي
لا إنكار فيها"،
هكذا قالوا!!،
ونسبوه إلى الشيخ!!
والواقع
أن الشيخ رحمه الله فصّل فقال:
"إن
التوسّل الخالي من عبادة المتوسِّل به،
وإنما هو توسل بحق الشخص، أو جاهه؛ فهذا
بدعة، وليس بشرك. وأما
التوسل الذي معناه التقرب إلى المتوسِّل
به بالذبح له، والنذر له، وغير ذلك من
أنواع العبادة؛ فهذا شرك أكبر".
هذا
معنى ما قاله الشيخ، وهو ما قرّره المحققون
من أهل العلم، وليس المراد: أن
التوسل كله من مسائل الفقه؛ لأن منه ما
هو شرك أكبر.
وهذا
بابٌ عظيم، لأنّ هذه الشبهة ضلّ بها أكثرُ
الخلق قديماً وحديثاً، لأنّهم لم يفرقوا
بين الوسيلة الممنوعة والوسيلة المشروعة.
فالتوسُّل
على قسمين:
توسُّل
ممنوع، وهو: التوسُّل
بجاه المخلوق، أو بحق المخلوق ومنزلته،
أو بذاته وهو إمّا شركٌ، وإما بدعة ووسيلة
إلى الشرك.
أما
التوسُّل المشروع فهو: الذي
جاء في الكتاب والسنّة ذكرُه والأمرُ به،
ومن
ذلك: الآية الكريمة {وَلِلَّهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا}
.
والتوسُّل
المشروع أنواع:
النوع
الأول: التوسُّل
بأسماء الله وصفاته، تقول:
(يا
رحمن ارحمني) ، (يا
غفور اغفر لي) ، (يا
توّاب تُبْ عليّ) ، (يا
غنيّ اغنني) ،
وهكذا، تذكُر في دعائك كلَّ اسم يناسِب
حاجتك.
ولا
يناسِب أنك تأتي باسم غير مناسب لحاجتك: فلا
تقل: اللهم
اغفر لي إنّك شديد العقاب.
النوع
الثاني: التوسُّل
إلى الله جل وعلا بدعاء الصالحين: إذا
كان هناك صالحٌ من الصالحين، حيٌّ موجود
تأتي إليه وتقول:
(ادعُ
الله لي أن يغفر لي) ، (أن
يرزقني) ، (أن
يشفِيَني) ،
أو إذا قَحِطّ النّاس طلبوا من الصالحين
أن يدعوا الله تعالى لهم بالغيث، فهذا
مشروع.
وقد
استسقى عمر بن الخطّاب- رضي
الله تعالى عنه- بدعاء
العبّاس عمّ الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال:
"اللهم
إنّا كُنّا نستسقي بنبينا فتسقينا، وإنا
نستسقي بعمّ رسولك، قم يا عبّاس فادعو"،
فيدعو العبّاس والنّاس يؤمنِّون.
وهذا
توسُّل بدعاء الصالحين، وكما توسّل معاوية
رضي الله عنه بيزيد الجُرْشي، وغيرُهم.
أما
الميِّت فلا يجوز أن تطلُب منه شيئاً،
فلا يجوز أن تذهب إلى قبر الرُسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو قبر غيره
من الصالحين وتقول:
(ادعُ
الله لنا) ،
لأنّ الصّحابة ما كانوا يذهبون إلى قبر
الرّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، بل إنّهم لَمّا أجدبوا وما
بينهم وبين قبر الرّسول إلاّ أمتار ما
ذهبوا إليه، إنّما طلبوا من العبّاس،
لأنّ العبّاس حيٌّ حاضر يستطيع أن يدعو،
أما الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فإنّه ميِّت، ولا يجوز أن يُطلب
من الميِّت شيء لا دُعاء ولا غيره.
النوع
الثالث: التوسُّل
إلى الله بالأعمال الصالحة، مثل حديث
أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم
الصّخرة وسدّت عليهم المَخْرَجْ فكلٌّ
منهم توسّل إلى الله بالعمل
الذي قدّمه لله عزّ وجلّ: هذا
توسَّل بعِفّته عن الحرام، وهذا توسّل
ببرِّه بوالديه، وهذا توسَّل بأمانته
وحِفظه لحقّ الأجير حتى جاء وأعطَاه
إيَّاه، ففرّج الله عنهم، وكما قال الله
سبحانه وتعالى:
{رَبَّنَا
إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي
لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
} توسّلوا
إلى الله بإيمانِهم بالرّسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{رَبَّنَا
آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا
الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (53)
} توسّلوا
إلى الله بإيمانهم وإتّباعهم للرّسول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والتوسُّل
بالتّوحيد:
(أسألك
بأنّك أنت الله لا إله إلاَّ أنت) ،
وكما توسّل ذو النون - عليه
الصلاة والسلام- وهو
في بطن الحوت:
{فَنَادَى
فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ}
.