الخميس، 16 مارس 2017

(تفريغ الدرس الثاني/الجزء3) من شرح الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين/شرح الشيخ علي الرملي حفظه الله


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
اليوم معنا الدرس الثاني من دروس شرح الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين
ونحن كنا قد انتهينا بفضل الله سبحانه وتعالى من مقدمة الشرح ومن الحديث الأول
واليوم معنا الحديث الثاني من الأحاديث التي وضعها شيخنا رحمه الله في هذا الكتاب
وما زلنا في باب فضل أهل العلم
قال المؤلف رحمه الله: ((قال الإمام أحمد رحمه الله(جـ 5 ص 183): ثنا يحيى بن سعيد ثنا شعبة ثنا عمر بن سليمان -من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه- عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان عن أبيه أن زيد بن ثابت خرج من عند مروان نحواً من نصف النهار، فقلنا: ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه. فقمت إليه فسألته، فقال: أجل سألنا عن أشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضَّر اللهُ امرءًا سمع منا حديثًا فحفِظه حتى يُبلِّغَه غيرَه ، فإنه رُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ ، و رُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفْقَهُ منه ، ثلاثُ خِصالٍ لا يُغَلَّ عليهنَّ قلبُ مسلمٍ أبدًا : إخلاصُ العملِ للهِ ، و مُناصحةُ وُلاةِ الأمرِ ، و لُزومُ الجماعةِ ، فإنَّ دعوتَهم تُحيطُ مِن ورائِهم" و قال : "من كان همُّه الآخرةَ ، جمعَ اللهُ شملَه ، و جعل غناه في قلبِه ، و أتَتْه الدنيا و هي راغمةٌ ، و من كانت نِيَّتُه الدنيا ، فَرَّق اللهُ عليه ضَيعَتَه ، و جعل فقرَه بين عَينَيه ، و لم يَأْتِه من الدُّنيا إلا ما كُتِبَ له". وسأَلنا عنِ الصلاةِ الوُسطى، وهي الظهرُ.
هذا حديث صحيح، ورجاله ثقات.
وأما الصلاة الوسطى فالصحيح أنها العصر)).
نبدأ بالإسناد
قال الإمام أحمد رحمه الله: (ثنا يحيى بن سعيد ثنا شعبة)
(يحيى بن سعيد): في هذا الإسناد هو القطان وقد تقدم في الحديث الذي قبله. أخرج له البخاري ومسلم وهو ثقة، ثبت، حافظ، إمام من أئمة الجرح والتعديل.
و(شعبة): كذلك تقدم في الإسناد الذي قبله وهو شعبة بن الحجاج الأزدي. أخرج له البخاري ومسلم أيضا.
(عمر بن سليمان): هو عمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني. ويقال: اسمه عمرو. من أتباع التابعين وهو ثقة. أخرج له الأربعة -يعني لم يخرج له لا البخاري ولا مسلم-.
صرَّح عمر بالسماع من عبد الرحمن. هو يروي هنا في هذا الإسناد عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان. سماع الإمام أحمد من يحيى بن سعيد، ويحيى بن سعيد من شعبة، هذا كله لا إشكال فيه. وكذلك سماع شعبة من عمر بن سليمان في هذا الإسناد الصحيح: الإمام أحمد، يحيى بن سعيد، شعبة، إلى هنا الإسناد صحيح وقد صرَّح شعبة بالتحديث، إذاً فسماعه من عمر ثابت في هذا الحديث.
أما سماع عمر من عبد الرحمن فقد صرح بالسماع من عبد الرحمن في رواية أبي داود، وهي من رواية محمد بن جعفر عن شعبة، وهي من أصح الروايات عن شعبة -رواية محمد بن جعفر-، وصرَّح البخاري بسماعه من عبد الرحمن في تاريخه أيضاً. إذاً فلا إشكال في سماع عمر بن سليمان من عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، وهو ثقة كما ذكرنا أخرج له الأربعة.
وأما (عبد الرحمن بن أبان بن عثمان): فهو عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان الأموي المدني، من أتباع التابعين، وهو ثقة مُقِلّ-يعني أحاديثه قليلة-، عابد-موصوف بالعبادة، يعني رجل صالح-. وقولهم:ثقة: يعني يُعتمد عليه في الحديث وإن كان مقلاً، وهو من أتباع التابعين، وهو في هذا الإسناد يروي عن أبيه بصيغة العنعنة، وأنا بحثت فيما يثبت سماعه من أبيه فوجدت الإمام الذهبي رحمه الله في "تاريخ الإسلام" يذكر أنه سمع من أبيه، وهذا كافٍ عندنا إن شاء الله.الذهبي حافظ ومطلع ولعله اطلع على ما يثبت هذا الأمر لذلك أثبت له ذلك في كتابه "تاريخ الإسلام". ومن منكم وجد غير هذا فليطلعنا عليه، لكن هذا كافي إن شاء الله.
وأما (أبان بن عثمان): فهو أبان بن عثمان بن عفان الأموي أبو سعيد ابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو مدني-يعني من أهل المدينة- تابعي ثقة، أخرج له مسلم والأربعة. يروي عن زيد بن ثابت هنا، وسماع أبان من زيد بن ثابت ثابتٌ لهذا الحديث، ففيه التصريح بالسماع منه.
و(زيد بن ثابت): صحابي جليل فقيه من بني النجار، أنصاري خزرجي وهو من كتبة الوحي، كان من علماء الصحابة، وهو ممن جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق. قال له أبو بكر: إنك شابٌ عاقل لا نتَّهمك.هذه تزكية من أبي بكر الصديق له. مات سنة45هـ على قول الأكثر.
هؤلاء هم رجال الإسناد. وكما ترون الإسناد لا غبار عليه.
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي في "الكبرى". النسائي له كتابان: "السنن الكبرى" و"السنن الصغرى"، والتي هي من الكتب الستة هي "السنن الصغرى" وهي أنظف أحاديثاً من "الكبرى" وأصح، لكن مع ذلك ليس كل ما فيها صحيح، إلا أنها أصح الكتب الستة بعد الصحيحين، أما السنن الكبرى ففيه أحاديث كثيرة صحيحة، حسنة، وضعيفة، ومعلَّة ويبِّين النسائي نفسه عللها.
وأخرجه ابن ماجه والدارمي وغيرهم عن شعبة به، مطوَّلاً ومختصراً.
مدار الحديث على شعبة، وقد توبع عند ابن ماجه من رواية الليث بن أبي سُلَيم عن يحيى بن عبّاد عن أبيه عن زيد بن ثابت به، دون الفقرة الأخيرة، ولكن الليث بن أبي سليم ضعيف.
والحديث له شواهد كثيرة أجودها حديث ابن مسعود، وقد جمع الشيخ عبد المحسن العباد طرقه في كتاب سماه: "دراسة حديث نضَّر الله امرَءًا سمع مقالتي رواية ودراية" استوعب الشيخ حفظه الله الكلام على هذا الحديث في كتابه المذكور، وقرَّر أن الحديث متواتر، لكن الظاهر أن التواتر فيه نظر، فكثير من الشواهد التي ذُكرت هي منكرات، لكن بالجملة الحديث صحيح لا غبار عليه، صححه جمع من العلماء ومنهم ابن حبان والعراقي والألباني، وهذا شيخنا رحمه الله والعبَّاد وغيرهم.
هذا ما يتعلق بإسناد الحديث وحاله
قال فيه أبان بن عثمان: (أن زيداً خرج من عند مروان نحواً من نصف النهار):
(مروان): هذا المقصود به هو المروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أبو عبد الملك الأموي المدني، وليَ الخلافة في آخر سنة 64هـ ومات سنة 65هـ في رمضان. قال الحافظ بن حجر: لا تثبت له صحبة. تنازع في صحبته، والذي حققه الحافظ بن حجر أن صحبته لا تثبت. وترجم له الذهبي رحمه الله في "السِّيَر" وجعله من الطبقة الأولى من التابعين، وقال: قيل: له رؤية -ذكره بصيغة التمريض: قيل. له رؤية: أي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم-. قال: وذلك محتمَل -يعني ربما وربما لا-.
قال: (أن زيداً خرج من عند مروان نحواً من نصف النهار، فقلنا: ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه): الظاهر أن مروان بن الحكم كان أميراً في ذلك الوقت، ولا يرسل إلى مثل زيد بن ثابت في ذاك الوقت إلا لشيء هام. لذلك ظنوا هذا الظن. يريد أن يسأله عنه.
(فقمت إليه فسألته): سأل أبان زيد بن ثابت.يعني سأله هل سألك مروان عن شيء؟ وإذا سألك عن شيء فما هو؟.
(فقمت إليه فسألته فقال: أجل): نعم سألنا.
(سألنا عن أشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم): يعني سأل مروان زيداً وكان عند زيد علم لِما سُئِل عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الحديث.
(قال عليه الصلاة والسلام: "نضَّر الله امرَءاً سمع منا حديثاً"): نضَّر الله: قال أهل العلم: الضاد هنا تشدَّد وتخفَّف: من النضارة، الحسن والرونق، وهو دعاء والله أعلم، يعني النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن فعل هذا الفعل.
قال ابن الأثير في "النهاية": نَضَره ونَضَّره وأَنضرَه أي نعَّمه. ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق. وإنما أراد حسن خَلْقه وقدره، يعني يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
البعض قال: المقصود من ذلك الدعاء له بالمنزلة، والرفعة، والقدر. والبعض قال: نضارة الوجه -يعني حُسْن الوجه-.
(نضَّر الله امرءًا): أي شخصاً (سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغه غيره): دعاء لمن بلَّغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم لغيره. هذا الدعاء يدخل فيه أهل الحديث جميعاً، سواء كانوا رواة فقط أو رواة وفقهاء في الحديث. فكل من روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصداً بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا، يشمله هذا الدعاء الذي دعا به عليه الصلاة والسلام.
("سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغه غيره"): يعني سواء سمعه مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعه من غيره. ويدخل في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أيضا. سواء كان قولياً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو فعلاً أو تقريراً نقله أصحابه رضي الله عنهم، كله داخل، حفظه حفظ صدر أو حفظ كتاب، وبقي حافظاً له إلى أن يبلغه غيره، إلى أن ينقل الشيء المسموع للناس كما سمعه.
("فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه"): (رُبَّ): تستعمل في لغة العرب للتقليل والتكثير.
(حامل فقه): أي حامل أدلة الأحكام الشرعية، فهي التي يُستنبط منها الفقه، من غير أن يكون له قدرة على الاستدلال واستنباط الأحكام. رب حامل فقه ولكنه ليس بفقيه، لكن هو الذي أوصل الدليل الذي يستخرج منه الفقيه الحكم الشرعي.
("ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"): يعني حامل الفقه هذا ربما لا يكون فقيهاً ويحمله إلى الفقيه، وربما يكون فقيهاً ولكنه يحمله إلى من هو أفقه منه فيستنبط منه من الأحكام ما لا يستنبطها الأول.
قال: ("ثلاث خصال"): الخصال جمع خَصلة-بفتح الخاء- وهي الخُلَّة والفضيلة. تطلق على الرذيلة أيضاً، أو قد غلبت على الفضيلة، وهو المراد هنا.
("ثلاث خصال لا يَغلُّ عليهن قلب امرئ مسلم أبدا"): لا يَغِلُّ، ويصح أن تقول: لا يُغِلُّ-بضم الياء أو فتحها- تروى بهذا وهذا، ومعناها بالضم: الخيانة -في كل شيء-، ومعناها -بفتح الياء مع شد اللام-: الحقد والشحناء. وتروى -بفتح الياء مع تخفيف اللام- ومعناها: الدخول في الشر.
قال ابن عبد البر في معنى هذه الجملة(لا يَغل عليهن قلب امرئ مسلم أبدا) قال: لا يكون القلب عليهن ومعهن غليلاً أبدا، يعني لا يقوى فيه مرض ولا نفاق إذا أخلص العمل لله ولزم الجماعة وناصح أولي الأمر، أي أن قلبه يكون فارغاً من الغل -من الحقد- ومن النفاق ومن المرض الذي يكون في القلب، فلا يبقى مع هذه الخصال شيء من هذه الأمور في القلب. لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم أبداً، قلبه يكون فارغاً من الحقد والشحناء، إذا حقق هذه الخصال: إخلاص العمل لله، يعني أن تجعل عملك، عباداتك، طاعاتك، لله وحده، لا تريد معها شيئاً من ثناء الناس أو مدحهم، ولا تطلب بها دنيا، بل تعمل العمل لله تبارك وتعالى كي يرضى الله سبحانه وتعالى عنك فقط.
هذا معنى أن يكون العمل خالصاً.
("ومناصحة ولاة الأمر"): أي نصحهم وإرشادهم للخير، ومعاونتهم على الحق، وطاعتهم في الحق.
قال أهل العلم: النصيحة كلمة يعبَّر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، يعني عندما تريد أن تنصح شخص لا تنصحه من أجل أن يعود الأمر بالنفع عليك، لا، ولكنك تنصحه كي يعود الأمر بالنفع عليه. فإرادة الخير للمنصوح له، أنت ولي الأمر عندما تريد أن تنصحه تبين له الحق من الباطل كي يتَّبع الحق، لأن ولي الأمر إذا اتبع الحق فاز من وراء ذلك المسلمون ورجع النفع والخير إلى الإسلام والمسلمين وإلى ولي الأمر نفسه، لأنه ينجو عند الله سبحانه وتعالى بهذا. فأن تدعو له بالصلاح، هذا من النصح له، أن تدعو له بالصلاح وبالتوبة وبالحكم بشرع الله. هذا من النصح له وهذا الوارد عن السلف رضي الله عنهم، أنهم كانوا يدعون للأئمة بالصلاح. ما نعرف عنهم أنهم كانوا يدعون لولاة الأمر مع فسادهم وطغيانهم في الأرض يدعون لهم بطول العمر، كما يفعل بعض الشباب اليوم، الناس بين إفراط وتفريط في كل شيء. هذا منها. البعض تجده حاكماً لا يرفع رأساً بشريعة الله، ولا يبالي بدين الله، لا من قريب ولا من بعيد، ومع ذلك تجد الشخص يدعو له: اللهم أطل في عمره! على ماذا؟ ادع له بالصلاح. هذا يعود بالنفع عليه وعلى غيره، أما إطالة العمر ربما تعود عليه هو نفسه بالضرر، فإذا بقي في فساده، طال عمره وبقي في فساده يزيد إثمه ويزيد فساده في الأرض. هذا ليس من النصح له. إذا أردت أن تنصح له فادع له بالصلاح، هذا من النصح له.
ندعو لهم لأجل أن يعود الخير عليهم وعلى الإسلام وعلى المسلمين، لا تعصباً كما يفعل البعض. أصلح الله العباد.
("ولزوم الجماعة"): الجماعة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان على نهجهم وطريقهم، فالحق معهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة"وفي رواية أخرى "ما أنا عليه وأصحابي". إذاً هذه هي الجماعة، الجماعة هو الحق ولو كنت وحدك كما قال السلف رضي الله عنهم في تفسيرها. الحق ولو كنت وحدك، تنطق بالحق، تلزم الحق، تلزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، بذلك تكون ملتزماً بالجماعة.
قال: ("فإن دعوَتَهم تحيط من ورائهم"): ابن القيم له كلام طيب في هذا، نذكره لكم.
قال ابن القيم رحمه الله: هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى - كلام رائع جميل مختصر حسن فخم راقي-. قال: شبَّه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم -سياج كالسور يعني، تلفه هكذا وتضعهم في داخله، هذا السور يكون واقياً لهم، حامياً لهم-. قال: شبَّه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام وهم داخلوها، لمّا كانت سوراً وسياجاً عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته. -فإن دعوتهم تحيط من ورائهم: يعني تلفهم من خلفهم كما يلف السياج المكان، فيجتمعون في هذا المكان وتحفظهم دعوتهم دعوة الإسلام- فهو إذا لزم جماعة المسلمين شملته هذه الإحاطة مع بقية المسلمين.
وقال عليه الصلاة والسلام:("من كان همه الآخرة"): أي من كان حريصاً عليها وهي نيته وقصده وشغله الشاغل هي الآخرة لا يشتغل في الدنيا إلا بقدر ما يبلِّغه الآخرة، فليست هي همه وليست هي شغله ولا يبالي بها ولا يريد منها إلا ما يوصله إلى ربه تبارك وتعالى. من كان هذا وصفه جمع الله شمله. جمع الله شمله: يعني جمع الله أموره المتفرقة بأن جعله مجموع الخاطر بتهيئة أسبابه من حيث لا يشعر به، فييسِّر الله تبارك وتعالى له جميع شؤونه ويجمع همومه فلا يبقى له إلا هم واحد وهو أن يصل إلى الله تبارك وتعالى، فيهوِّن الله عليه أمور الدنيا ومشاغلها فيبقى شغله الشاغل الذي يشغله هو رضى الله سبحانه وتعالى.
قال: ("وجعل غناه في قلبه"): يعني يجعله قانعاً بالكفاف والكفاية كي لا يتعب في طلب الزيادة . هذا أعظم الغنى -بارك الله فيكم- الغنى الحقيقي هو غنى القلب أن يكون القلب قنوعاً راضياً بما يأتيه من عند الله سبحانه وتعالى، فلا يطمع بزيادة كي يتوسع في أمر الدنيا، بل شغله الشاغل آخرته، ويطلب من الدنيا ما يريحه من أجل أن يتفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى ويعينه على ذلك.
("وأتته الدنيا راغمة"): يعني بعد هذا كله تأتيه الدنيا راغمة، ذليلة، حقيرة، تابعة له، يأتيه ما قسم الله له من الرزق، لكن تُفتح عليه الدنيا بعد أن يكون قد ألقى بها من ورائه وزهد فيها، تأتيه هي راغمة، خاضعة، ذليلة، تأتيه هينة لينة على رغم أنفها، فلا يحتاج أن يطلبها بسعي كثير وعمل شاق، لا.
بينما انظروا إلى الصنف الثاني من الناس
("ومن كانت نيته الدنيا"): همه وقصده الدنيا، وشغله الشاغل الدنيا. وهذا حال الكثيرين اليوم وللأسف. كثير من المسلمين بل أكثر المسلمين هذا شغلهم: الدنيا! صارت الآخرة عندهم أمراً ثانوياً، لمن يهتم بها! السلف رضي الله عنهم كانت الأمور عندهم مقلوبة عما هي عندنا اليوم، فكانت هي الميزان الصحيح والقلب بالعكس حصل عندنا، كان همهم وشغلهم هي الآخرة، يعملون لأجلها، ويأخذون من الدنيا قدر ما يبلغهم الآخرة، أما عندنا اليوم، لأ، العكس حصل، صار شغل الناس الشاغل هي الدنيا، الركض خلفها والاشتغال بها، وأمور الدين صارت ثانوية، إذا بقي عنده وقت إضافي عن الدنيا انشغل بالدين وإلا فلا! انظروا إلى حال -خاصةً- كبار السن متى يأتي إلى المسجد ويصبح من رواد المسجد؟ عندما يتقاعد عن العمل! خلاص يصبح هناك مكان عنده للدين! قبل ذلك لا تكاد تجده يدخل المسجد ليش؟ لأن الدنيا غالبة. هم صنفان كما وردا في هذا الحديث. والفائز عند الله هو الصنف الأول، والصنف الثاني إذا الله أراد له الهداية نجّاه.
("ومن كانت نيته الدنيا فرَّق الله عليه ضيعته"): الضيعة ما يكون منه معاش الرجل، كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، أي جعل الله صنعته وحرفته وما يعيش منه متفرقاً، فلما يتفرق يحصل كثرة التعب واللهث خلفها فيصير قد تشعبت الهموم في قلبه وتوزعت أفكاره فيبقى متحيراً مشغولاً ضائعاً.
("وجعل فقره بين عينيه"): شوف! بالعكس، شوف الأول كيف وهذا ضده. وجعل فقره بين عينيه: يعني جعله دائماً طالباً للدنيا محتاجاً إليها، فإن حاجة الراغب فيها لا تنقضي، كلما حصل على بعضها طلب أكثر "لو أنَّ لابنِ آدمَ واديَيْن من ذهبٍ لابتغَى إليهما ثالثًا ، ولا يملأُ جوفَ ابنِ آدمَ إلَّا التُّرابُ ، ويتوبُ اللهُ على من تاب".
إذا فُقد الغنى من القلب بقيت فقيراً طيلة عمرك، حتى لو كنت صاحب قصور وملايين، تبقى فقيراً ليش؟ لأن الغنى في القلب والفقر في القلب. فإذا بقي قلبك معلقاً بالدنيا راغباً بها يريد الاستكثار منها فلن يستقر لك مستقر، وكلما جاءك من الدنيا كلما طلبت أكثر.
هذا فقر القلب وذاك غناه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا وعليكم بغنى القلب، فهذه نعمة عظيمة يمتن الله بها على من يشاء من عباده.
ومع كل ذلك مع حرصه على الدنيا وفقر قلبه وشغله بها ولهثه خلفها
("ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له"): يعني ما قسم الله لك في النهاية هو الذي سيأتيك، وغير ذلك إنما هو شغل وتعب وركض خلفها من غير فائدة، تضييع للوقت ....