قصة نبي الله زكريا عليه السلام
[(من
تفسيرَيّ ابن كثير والسعدي رحمهما
الله لسورة مريم)]
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ذِكْرُ
رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا
(2)
أَيْ:
هَذَا
ذِكْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعَبْدِهِ
زَكَرِيَّا.
وَزَكَرِيَّا
كَانَ نَبِيًّا عَظِيمًا مِنْ أَنْبِيَاءِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَفِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ:
أَنَّهُ
كَانَ نَجَّارًا، أَيْ:
كَانَ
يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ فِي
النِّجَارَةِ.
إِذْ
نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
ناداه
نداء خفيا، ليكون أكمل وأفضل وأتم إخلاصا.
قَالَ
قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِذْ
نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}
: إِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ التَّقِيَّ
، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ.
وَقَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ:
قَامَ
مِنَ اللَّيْلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَقَدْ نَامَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ
يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَقُولُ خُفْيَةً:
يَا
رَبِّ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ فَقَالَ
اللَّهُ:
لَبَّيْكَ،
لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ.
قَالَ
رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ
أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
أي:
وَهَى
وضعف، وإذا ضعف العظم، الذي هو عماد البدن،
ضعف غيره، {وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْبًا}
لأن
الشيب دليل الضعف والكبر، ورسول الموت
ورائده، ونذيره، فتوسل إلى الله تعالى
بضعفه وعجزه، وهذا من أحب الوسائل إلى
الله، لأنه يدل على التبري من الحول
والقوة، وتعلق القلب بحول الله وقوته.{وَلَمْ
أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}
أي:
لم
تكن يا رب تردني خائباً ولا محروماً من
الإجابة، بل لم تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا،
ولم تزل ألطافك تتوالى علي، وإحسانك
واصلاً إلي، وهذا توسل إلى الله بإنعامه
عليه، وإجابة دعواته السابقة، فسأل الذي
أحسن سابقا، أن يتمم إحسانه لاحقا.
وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ
لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5)
أي:
وإني
خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي،
أن لا يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا
عبادك إليك، وظاهر هذا، أنه لم ير فيهم
أحداً فيه لياقة للإمامة في الدين، وهذا
فيه شفقة زكريا عليه السلام ونصحه، وأن
طلبه للولد، ليس كطلب غيره، قصده مجرد
المصلحة الدنيوية، وإنما قصده مصلحة
الدين، والخوف من ضياعه، ورأى غيره غير
صالح لذلك، وكان بيته من البيوت المشهورة
في الدين، ومعدن الرسالة، ومظنة للخير،
فدعا الله أن يرزقه ولدا، يقوم بالدين من
بعده، واشتكى أن امرأته عاقر، أي ليست
تلد أصلاً وأنه قد بلغ من الكبر عتيا، أي:
عمرا
يندر معه وجود الشهوة والولد.
{فَهَبْ
لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}
وهذه
الولاية، ولاية الدين، وميراث النبوة
والعلم والعمل، ولهذا قال:
يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ
رَبِّ رَضِيًّا (6)
أي:
عبدا
صالحا ترضاه وتحببه إلى عبادك، وهذا أفضل
ما يكون من الأولاد.
فرحمه
ربه واستجاب دعوته فقال:
يَا
زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ
اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ
قَبْلُ سَمِيًّا (7)
أي:
بشره
الله تعالى على يد الملائكة بـ "
يحيى
"
وسماه
الله له "
يحيى
"
وكان
اسما موافقا لمسماه:
يحيا
حياة حسية، فتتم به المنة، ويحيا حياة
معنوية، وهي حياة القلب والروح، بالوحي
والعلم والدين.
{لَمْ
نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}
أَيْ
لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِهَذَا
الِاسْمِ، ويحتمل أن المعنى:
لم
نجعل له من قبل شَبِيهًا.
وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَيْ
لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ قَبْلَهُ
مِثْلَهُ.
قَالَ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ
بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
قَالَ
كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ
وَلَمْ تَكُ شَيْئًا(9)
هَذَا
تَعَجُّبٌ مِنْ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، لما جاءته
البشارة بهذا المولود الذي طلبه استغرب
وتعجب وقال:
{رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ}
والحال
أن المانع من وجود الولد، موجود بي وبزوجتي؟
وكأنه وقت دعائه، لم يستحضر هذا المانع
لقوة الوارد في قلبه، وشدة الحرص العظيم
على الولد، وفي هذه الحال، حين قُبلت
دعوته، تعجب من ذلك، فأجابه الله بقوله:
{كَذَلِكَ
قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}
أي:
الأمر
مستغرب في العادة، وفي سنة الله في الخليقة،
ولكن قدرة الله تعالى صالحة لإيجاد الأشياء
بدون أسبابها فذلك هين عليه، ليس بأصعب
من إيجاده قبل ولم يكن شيئا.
قَالَ
رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ
لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ
فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا
بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
أَيْ:
اجعل
لي عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ
مَا وَعَدْتَنِي، لِتَسْتَقِرَّ نَفْسِي
وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي،
وليس هذا شكاً في خبر الله، وإنما هو، كما
قال الخليل -إبراهيم- عليه
السلام:
{رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
فطلب
زيادة العلم، والوصول إلى عين اليقين بعد
علم اليقين، فأجابه الله إلى طلبه رحمة
به، فـ {قَالَ
آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ
لَيَالٍ سَوِيًّا}
أَيْ:
عَلَامَتُكَ،
وفي الآية الأخرى {ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا}
والمعنى
واحد، لأنه تارة يعبر بالليالي، وتارة
بالأيام ومؤداها واحد، وهذا من الآيات
العجيبة، فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة
أيام، وعجزه عنه من غير خرس ولا آفة، بل
كان سويا، لا نقص فيه، من الأدلة على قدرة
الله الخارقة للعوائد، ومع هذا، ممنوع
من الكلام الذي يتعلق بالآدميين وخطابهم،.
وأما
التسبيح والتهليل، والذكر ونحوه، فغير
ممنوع منه، ولهذا قال في الآية الأخرى:
{وَاذْكُرْ
رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالإبْكَارِ}
فاطمأن
قلبه، واستبشر بهذه البشارة العظيمة،
وامتثل لأمر الله له بالشكر بعبادته
وذكره، فعكف في محرابه، وخرج على قومه
منه فأوحى إليهم، أي:
بالإشارة
والرمز {أَنْ
سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}
لأن
البشارة بـ "
يحيى
"
في
حق الجميع، مصلحة دينية.
يَا
يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
أَيْ:
تَعَلَّمِ
الْكِتَابَ بِجِدٍّ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ
{وَآتَيْنَاهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا}
أَيِ:
الْفَهْمَ
وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ،
وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ،
وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادَ
فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثُ [السِّنِّ].
قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
قَالَ
مَعْمَرٌ:
قَالَ
الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا:
اذْهَبْ
بِنَا نَلْعَبْ.
قَالَ:
مَا
لِلَّعِبِ خُلِقْتُ، قَالَ:
فَلِهَذَا
أَنْزَلَ اللَّهُ:
{وَآتَيْنَاهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا}
.
وَحَنَانًا
مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا
(13)
أي:
وآتيناه
أيضا رحمة ورأفة، تيسرت بها أموره، وصلحت
بها أحواله، واستقامت بها أفعاله.{وَزَكَاةً}
أي:
طهارة
من الآفات والذنوب، فطهر قلبه وتزكى عقله،
وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة،
والأخلاق الرديئة، وزيادة الأخلاق الحسنة،
والأوصاف المحمودة، ولهذا قال:{وَكَانَ
تَقِيًّا}
أي:
فاعلاً
للمأمور، تاركاً للمحظور، ومن كان مؤمنا
تقياً كان لله ولياً، وكان من أهل الجنة
التي أعدت للمتقين، وحصل له من الثواب
الدنيوي والأخروي، ما رتبه الله على
التقوى.
وَبَرًّا
بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا
عَصِيًّا (14)
أي:
لم
يكن عاقاً، ولا مسيئاً إلى أبويه، بل كان
محسناً إليهما بالقول والفعل.
{وَلَمْ
يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}
أي:
لم
يكن متجبراً متكبراً عن عبادة الله، ولا
مترفعاً على عباد الله، ولا على والديه،
بل كان متواضعاً، متذللاً مطيعاً، أوّاباً
لله على الدوام، فجمع بين القيام بحق
الله، وحق خلقه، ولهذا حصلت له السلامة
من الله، في جميع أحواله، مبادئها وعواقبها،
فلذا قال:
وَسَلَامٌ
عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ
وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
أَيْ:
لَهُ
الْأَمَانُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ
الْأَحْوَالِ.
وَقَالَ
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ:
أَوْحَشُ
مَا يَكُونُ الْخَلْقُ فِي ثَلَاثَةِ
مَوَاطِنَ:
يَوْمَ
يُولَدُ، فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا
مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ
فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ،
وَيَوْمَ يُبْعَثُ، فَيَرَى نَفْسَهُ
فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ.
قَالَ:
فَأَكْرَمَ
اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا
فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ،
{وَسَلامٌ
عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ
وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.