قصة
مريم ابنة عمران وابنها المسيح عيسى نبي الله
عليهما السلام وأن عيسى لم يصلب ولم يقتل
ولكن رفعه الله إليه
قال
الله جل في علاه في سورة مريم:
وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا
(16)
هِيَ
مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، مِنْ سُلَالَةِ
دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ
مِنْ بَيْتٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ.
وَقَدْ
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ وِلَادَةِ
أُمِّهَا لَهَا فِي "آلِ
عِمْرَانَ"،
وَأَنَّهَا نَذَرَتْهَا مُحَرَّرَةً،
أَيْ:
تَخْدُمُ
مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا
يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ، {فَتَقَبَّلَهَا
رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا
نَبَاتًا حَسَنًا}
[آلِ
عِمْرَانَ:
37] وَنَشَأَتْ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَشْأَةً
عَظِيمَةً، فَكَانَتْ إِحْدَى الْعَابِدَاتِ
النَّاسِكَاتِ الْمَشْهُورَاتِ
بِالْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ وَالتَّبَتُّلِ
وَالدُّءُوبِ، وَكَانَتْ فِي كَفَالَةِ
زَوْجِ أُخْتِهَا -وَقِيلَ:
خَالَتِهَا-زَكَرِيَّا
نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ ذَاكَ
وَعَظِيمِهِمُ، الَّذِي يَرْجِعُونَ
إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ.
وَرَأَى
لَهَا زَكَرِيَّا مِنَ الْكَرَامَاتِ
الْهَائِلَةِ مَا بَهَرَهُ {كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا
مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
[آلِ
عِمْرَانَ:
37] فَذُكِرَ
أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَ
الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَثَمَرَ
الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ.
فَلَمَّا
أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى -وَلَهُ
الْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ-أَنْ
يُوجد مِنْهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَدَ
الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ
الْعِظَامِ، {انْتَبَذَتْ
مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}
أَيِ:
اعْتَزَلَتْهُمْ
وَتَنَحَّتْ عَنْهُمْ، وَذَهَبَتْ إِلَى
شَرْقِ الْمَسْجِدِ الْمُقَدَّسِ.
فَاتَّخَذَتْ
مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا
إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا
بَشَرًا سَوِيًّا (17)
أَيِ:
اسْتَتَرَتْ
مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ
اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَةِ
إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ.
قَالَتْ
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا(18)
أَيْ:
لَمَّا
تَبَدى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ
بَشَرٍ، وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ
وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ،
خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا
عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ:
{إِنِّي
أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ}
أي
ألتجئ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء
{إِنْ
كُنْتَ تَقِيًّا}
أي
إن كنت تخاف الله وتعمل بتقواه فاترك
التعرض لي، فجمعت بين الاعتصام بربها
وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى
وهي في تلك الحالة الخالية والشباب والبعد
عن الناس وهو في ذلك الجمال الباهر والبشرية
الكاملة السوية ولم ينطق لها بسوء أو
يتعرض لها وإنما ذلك خوف منها وهذا أبلغ
ما يكون من العفة والبعد عن الشر وأسبابه،
وهذه العفة -
خصوصا
مع اجتماع الدواعي وعدم المانع -
من
أفضل الأعمال، ولذلك أثنى الله عليها
فقال {وَمَرْيَمَ
ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ
رُوحِنَا}
{وَالَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا
مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا
آيَةً لِلْعَالَمِينَ}
فأعاضها
الله بعفتها ولدا من آيات الله ورسولا من
رسله.
قَالَ
إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ
لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا(19)
فلما
رأى جبريل منها الروع والخيفة قال {إِنَّمَا
أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}
أي
إنما وظيفتي وشغلي تنفيذ رسالة ربي فيك
{لأهَبَ
لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}
وهذه
بشارة عظيمة بالولد وزكائه فإن الزكاء
يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة واتصافه
بالخصال الحميدة.
قَالَتْ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ
بَغِيًّا(20)
أَيْ:
فَتَعَجَّبَتْ
مَرْيَمُ مِنْ هَذَا وَقَالَتْ:
كَيْفَ
يَكُونُ لِي غُلَامٌ؟ أَيْ:
عَلَى
أَيِّ صِفَةٍ يُوجَدُ هَذَا الْغُلَامُ
مِنِّي، وَلَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا
يُتَصَوَّرُ مِنِّي الْفُجُورُ؛ وَلِهَذَا
قَالَتْ:
{وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}
وَالْبَغِيُّ:
هِيَ
الزَّانِيَةُ.
قَالَ
كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ
وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا
مَقْضِيًّا(21)
أَيْ:
فَقَالَ
لَهَا الْمَلَكُ مُجِيبًا لَهَا عَمَّا
سَأَلَتْ:
إِنَّ
اللَّهَ قَدْ قَالَ:
إِنَّهُ
سَيُوجَدُ مِنْكِ غُلَامًا، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَكِ بَعْلٌ وَلَا تُوجَدُ مِنْكِ
فَاحِشَةٌ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ
قَادِرٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ:
{وَلِنَجْعَلَهُ
آيَةً لِلنَّاسِ}
أَيْ:
دَلَالَةً
وَعَلَامَةً لِلنَّاسِ عَلَى قُدْرَةِ
بَارِئِهِمْ وَخَالِقِهِمُ، الَّذِي
نَوَّعَ فِي خَلْقِهِمْ، فَخَلَقَ
أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ
وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ
ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ
الذُّرِّيَّةِ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى،
إِلَّا عِيسَى فَإِنَّهُ أَوْجَدَهُ
مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ
الْقِسْمَةُ الرُّبَاعِيَّةُ الدَّالَّةُ
عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ
سُلْطَانِهِ فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا
رَبَّ سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ:
{وَرَحْمَةً
مِنَّا}
أَيْ
وَنَجْعَلُ هَذَا الْغُلَامَ رَحْمَةً
مِنَ اللَّهِ نَبِيًّا من الأنبياء يدعو
إلى عبادة اللَّهِ
تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ.
{وَكَانَ}
أي
وجود عيسى عليه السلام على هذه الحالة
{أَمْرًا
مَقْضِيًّا}
قضاء
سابقا فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء.
فَحَمَلَتْهُ
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا(22)
يَقُولُ
تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ
أَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَ، إِنَّهَا
اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ
السَّلَفِ أَنَّ الْمَلَكَ -وَهُوَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ-عِنْدَ
ذَلِكَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا،
فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ حَتَّى وَلَجَتْ
فِي الْفَرْجِ، فَحَمَلَتْ بِالْوَلَدِ
بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَلَمَّا
حَمَلَتْ بِهِ ضَاقَتْ ذَرْعًا بِهِ
وَلَمْ تَدْرِ مَاذَا تَقُولُ لِلنَّاسِ،
فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا
يُصَدِّقُونَهَا فِيمَا تُخْبِرُهُمْ
بِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا أَفْشَتْ سِرَّهَا
وَذَكَرَتْ أَمْرَهَا لِأُخْتِهَا
امْرَأَةِ زَكَرِيَّا.
وَذَلِكَ
أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ،
كَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ الْوَلَدَ،
فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتِ
امْرَأَتُهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا
مَرْيَمُ فَقَامَتْ إِلَيْهَا
فَاعْتَنَقَتْهَا، وَقَالَتْ:
أَشَعَرْتِ
يَا مَرْيَمُ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ
لَهَا مَرْيَمُ:
وَهَلْ
عَلِمْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى؟
وَذَكَرَتْ لَهَا شَأْنَهَا وَمَا كَانَ
مِنْ خَبَرِهَا وَكَانُوا بَيْتَ إِيمَانٍ
وَتَصْدِيقٍ، ثُمَّ كَانَتِ امْرَأَةُ
زَكَرِيَّا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا وَاجَهَتْ
مَرْيَمَ تَجِدُ الَّذِي فِي جَوْفِهَا
يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِ مَرْيَمَ،
أَيْ:
يُعَظِّمُهُ
وَيَخْضَعُ لَهُ، فَإِنَّ السُّجُودَ
كَانَ فِي مِلَّتِهِمْ عِنْدَ السَّلَامِ
مَشْرُوعًا، كَمَا سَجَدَ لِيُوسُفَ
أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ، وَكَمَا أَمَرَ
اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَسْجُدَ
لِآدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنْ
حُرِّمَ فِي مِلَّتِنَا هَذِهِ تَكْمِيلًا
لِتَعْظِيمِ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى.
واخْتَلَفَ
الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَشْهُورُ
عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَمَلَتْ
بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا تَحْمِلُ
النِّسَاءُ بِأَوْلَادِهِنَّ؛ وَلِهَذَا
لَمَّا ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الْحَمْلِ
عَلَيْهَا وَكَانَ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ
رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ قَرَابَاتِهَا
يَخْدِمُ مَعَهَا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ،
يُقَالُ لَهُ:
يُوسُفُ
النَّجَّارُ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَلَ
بَطْنِهَا وَكِبَرَهُ، أَنْكَرَ ذَلِكَ
مِنْ أَمْرِهَا، ثُمَّ صَرَفَهُ مَا
يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا
وَدِينِهَا وَعِبَادَتِهَا، ثُمَّ
تَأَمَّلَ مَا هِيَ فِيهِ، فَجَعَلَ
أَمْرُهَا يَجُوسُ فِي فِكْرِهِ، لَا
يَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ،
فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ عَرَّضَ
لَهَا فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ:
يَا
مَرْيَمُ، إِنِّي سَائِلُكِ عَنْ أَمْرٍ
فَلَا تَعْجَلِي عَلَيَّ.
قَالَتْ:
وَمَا
هُوَ؟ قَالَ:
هَلْ
يَكُونُ قَطُّ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ؟
وَهَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ
بَذْرٍ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ
غَيْرِ أَبٍ؟ فَقَالَتْ:
نَعَمْ
-فَهِمَتْ
مَا أَشَارَ إِلَيْهِ-أَمَّا
قَوْلُكَ:
"هَلْ
يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَزَرْعٌ
مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ "
فَإِنَّ
اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ
أَوَّلَ مَا خَلَقَهُمَا مِنْ غَيْرِ
حَبٍّ، وَلَا بَذْرٍ "وَهَلْ
خَلْقٌ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ "فَإِنَّ
اللَّهَ قَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ
أَبٍ وَلَا أُمٍّ.
فَصَدَّقَهَا،
وسلَّم لَهَا حَالَهَا.
فَأَجَاءَهَا
الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ
قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ
هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا(23)
أي:
لما
قرب ولادها، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة،
فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد
عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة
الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت
قبل هذا الحادث، وكانت نسياً منسياً فلا
تذكر.
وهذا
التمني بناء على ذلك المزعج، وليس في هذه
الأمنية خير لها ولا مصلحة، وإنما الخير
والمصلحة بتقدير ما حصل.
فَنَادَاهَا
مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ
جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(24)
فحينئذ
سكن الملك روعها وثبت جأشها وناداها من
تحتها، مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وقال
لها:
لا
تحزني، أي:
لا
تجزعي ولا تهتمي، فـ {قَدْ
جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}
أي:
نهراً
تشربين منه.
وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا(25)
أي:
طرياً
لذيذاً نافعاً.
فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا
تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا
فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ
صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إِنْسِيًّا(26)
{فَكُلِي}
من
التمر، {وَاشْرَبِي}
من
النهر {وَقَرِّي
عَيْنًا}
بعيسى،
فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم
الولادة، وحصول المأكل والمشرب والهني.
وأما
من جهة قالة الناس، فأمرها أنها إذا رأت
أحداً من البشر، أن تقول على وجه الإشارة:
{إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}
أي:
سكوتا
{فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}
أي:
لا
تخاطبيهم بكلام، لتستريحي من قولهم
وكلامهم.
وكان
معروفا عندهم أن السكوت من العبادات
المشروعة، وإنما لم تؤمر بخطابهم في نفي
ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها، ولا
فيه فائدة، وليكون تبرئتها بكلام عيسى
في المهد، أعظم شاهد على براءتها.
فإن
إتيان المرأة بولد من دون زوج، ودعواها
أنه من غير أحد، من أكبر الدعاوى، التي
لو أقيم عدة من الشهود، لم تصدق بذلك،
فجعلت بينة هذا الخارق للعادة، أمراً من
جنسه، وهو كلام عيسى في حال صغره جداً،
ولهذا قال تعالى:
فَأَتَتْ
بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا
مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا
فَرِيًّا(27)
أي:
فلما
تعلت مريم من نفاسها، أتت بعيسى قومها
تحمله، وذلك لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها،
فأتت غير مبالية ولا مكترثة، فقالوا:
{لَقَدْ
جِئْتِ شَيْئًا فًريًّا}
أي:
عظيماً
وخيما، وأرادوا بذلك البغاء حاشاها من
ذلك.
يَا
أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ
امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ
بَغِيًّا(28)
الظاهر،
أنه أخ لها حقيقي، فنسبوها إليه، وكانوا
يسمون بأسماء الأنبياء وليس هو هارون بن
عمران أخا موسى، لأن بينهما قرونا كثيرة
{مَا
كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا
كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}
أي:
لم
يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر،
وخصوصاً هذا الشر، الذي يشيرون إليه،
وقصدهم:
فكيف
كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا
به؟.
وذلك
أن الذرية -
في
الغالب -
بعضها
من بعض، في الصلاح وضده، فتعجبوا -
بحسب
ما قام بقلوبهم -
كيف
وقع منها.
فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ
كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29)
فأشارت
لهم إليه، أي:
كلموه.
وإنما
أشارت لذلك، لأنها أمرت عند مخاطبة الناس
لها، أن تقول:
{إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}
فلما
أشارت إليهم بتكليمه، تعجبوا من ذلك
وقالوا:
{كَيْفَ
نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيًّا}
لأن
ذلك لم تجر به عادة، ولا حصل من أحد في ذلك
السن.
قَالَ
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)
أَوَّلُ
شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ
جَنَابَ رَبِّهِ تَعَالَى وَبَرَّأَ
اللَّهَ عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ
لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ.
وَقَوْلُهُ:
{آتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}
: تَبْرِئَةٌ
لِأُمِّهِ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ
مِنَ الْفَاحِشَةِ.
وَجَعَلَنِي
مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ
حَيًّا
(31)
أي:
في
أي مكان، وأي زمان، فالبركة جعلها الله
فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي
عن الشر، والدعوة إلى الله في أقواله
وأفعاله، فكل من جالسه، أو اجتمع به،
نالته بركته، وسعد به مصاحبه.
{وَأَوْصَانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ
حَيًّا}
أي:
أوصاني
بالقيام بحقوقه، التي من أعظمها الصلاة،
وحقوق عباده، التي أجلها الزكاة، مدة
حياتي، أي:
فأنا
ممتثل لوصية ربي، عامل عليها، منفذ لها.
وَبَرًّا
بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي
جَبَّارًا شَقِيًّا(32)
ووصاني
أيضاً، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية
الإحسان، وأقوم بما ينبغي له، لشرفها
وفضلها، ولكونها والدة لها حق الولادة
وتوابعها.
{وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّارًا}
أي:
متكبراً
على الله، مترفعاً على عباده {شَقِيًّا}
في
دنياي أو أخراي، فلم يجعلني كذلك بل جعلني
مطيعاً له خاضعاً خاشعاً متذللاً متواضعاً
لعباد الله، سعيداً في الدنيا والآخرة،
أنا ومن اتبعني.
وَالسَّلَامُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ
وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)
إِثْبَاتٌ
مِنْهُ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ
خَلْقِ اللَّهِ يَحْيَا وَيَمُوتُ
وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ الْخَلَائِقِ،
وَلَكِنْ لَهُ السَّلَامَةَ فِي هَذِهِ
الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ أَشَقُّ مَا
يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
ذَلِكَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ
الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34)
أي:
ذلك
الموصوف بتلك الصفات، عيسى بن مريم، من
غير شك ولا مرية، بل قول الحق، وكلام الله،
الذي لا أصدق منه قيلا ولا أحسن منه حديثا،
فهذا الخبر اليقيني، عن عيسى عليه السلام،
وما قيل فيه مما يخالف هذا، فإنه مقطوع
ببطلانه.
وغايته
أن يكون شكا من قائله لا علم له به، ولهذا
قال:
{الَّذِي
فِيهِ يَمْتَرُونَ}
أي:
يشكون
فيمارون بشكهم، ويجادلون بخرصهم، فمن
قائل عنه:
إنه
الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى
الله عن إفكهم وتقولهم علواً كبيرا.
مَا
كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ
سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(35)
لَمَّا
ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ عَبْدًا
نَبِيًّا، نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ
فَقَالَ:
{مَا
كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ
سُبْحَانَهُ}
أَيْ:
عَمَّا
يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ
الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا
كَبِيرًا، {إِذَا
قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ}
أَيْ:
إِذَا
أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَأْمُرُ
بِهِ، فَيَصِيرُكَمَا يَشَاءُ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ
آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *
الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ}
[آلِ
عِمْرَانَ:
59،
60]
وَإِنَّ
اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(36)
أَيْ:
وَمِمَّا
أَمَرَ عِيسَى بِهِ قَوْمَهُ وَهُوَ فِي
مَهْدِهِ، أَنْ أَخْبَرَهُمْ إِذْ ذَاكَ
أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَرَبُّهُ،
وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ:
{فَاعْبُدُوهُ
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
أَيْ:
هَذَا
الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ:
قَوِيمٌ،
مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَهَدَى، وَمَنْ
خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى.
فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ
يَوْمٍ عَظِيمٍ(37)
أَيِ:
اخْتَلَفَتْ
أَقْوَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِيسَى
بَعْدَ بَيَانِ أَمْرِهِ وَوُضُوحِ
حَالِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ، فصَمَّمَت طَائِفَةٌ
-وَهُمْ
جُمْهُورُ الْيَهُودِ، عَلَيْهِمْ
لِعَائِنُ اللَّهِ -عَلَى
أَنَّهُ وَلَدُ زنْيَة، وَقَالُوا:
كَلَامُهُ
هَذَا سِحْرٌ.
وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ أُخْرَى:
إِنَّمَا
يكَلّمَ اللَّهُ.
وَقَالَ
آخَرُونَ:
هُوَ
ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ:
ثَالِثُ
ثَلَاثَةٍ.
وَقَالَ
آخَرُونَ:
بَلْ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَهَذَا
هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، الَّذِي أَرْشَدَ
اللَّهُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ:
{فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ
يَوْمٍ عَظِيمٍ}
تَهْدِيدٌ
وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى
اللَّهِ، وَافْتَرَى، وَزَعَمَ أَنَّ
لَهُ وَلَدًا.
وَلَكِنْ
أَنْظَرَهُمْ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَأَجَّلَهُمْ حِلْمًا
وَثِقَةً بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ؛
فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى
مَنْ عَصَاهُ،كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ:
"إِنَّ
اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى
إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ".
أَسْمِعْ
بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا
لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ(38)
أَيْ:
مَا
أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ {يَوْمَ
يَأْتُونَنَا}
يَعْنِي:
يَوْمَ
الْقِيَامَةِ {لَكِنِ
الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ}
أَيْ:
فِي
الدُّنْيَا {فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ}
أَيْ:
لَا
يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا
يَعْقِلُونَ، فَحَيْثُ يُطْلَبُ مِنْهُمُ
الْهُدَى لَا يَهْتَدُونَ، وَيَكُونُونَ
مُطِيعِينَ حيث لا ينفعهم ذلك.
وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ(39)
إِنَّا
نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا
وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(40)
الإنذار
هو:
الإعلام
بالمخوف على وجه الترهيب، والإخبار
بصفاته، وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد،
يوم الحسرة حين يقضى الأمر، فيجمع الأولون
والآخرون في موقف واحد، ويسألون عن
أعمالهم.
فمن
آمن بالله، واتبع رسله، سعد سعادة لا يشقى
بعدها.
ومن
لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاوة لا
سعادة بعدها، وخسر نفسه وأهله.
فحينئذ
يتحسر، ويندم ندامة تتقطع منها القلوب،
وتنصدع منها الأفئدة، وأي:
حسرة
أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق
سخطه والنار، على وجه لا يتمكن من الرجوع،
ليستأنف العمل، ولا سبيل له إلى تغيير
حاله بالعود إلى الدنيا؟!
فهذا
قدامهم، والحال أنهم في الدنيا في غفلة
عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم،
ولو خطر فعلى سبيل الغفلة، قد عمتهم
الغفلة، وشملتهم السكرة، فهم لا يؤمنون
بالله، ولا يتبعون رسله، قد ألهتهم دنياهم،
وحالت بينهم وبين الإيمان شهواتهم المنقضية
الفانية.
فالدنيا
وما فيها، من أولها إلى آخرها، ستذهب عن
أهلها، ويذهبون عنها، وسيرث الله الأرض
ومن عليها، ويرجعهم إليه، فيجازيهم بما
عملوا فيها، وما خسروا فيها أو ربحوا،
فمن فعل خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير
ذلك، فلا يلومن إلا نفسه.
[من
تفسيرَي ابن كثير والسعدي رحمهما الله]
((المسيح
عيسى بن مريم عليه السلام لم يصلب ولم
يقتل وإنما رفعه الله إليه))
ذكر
ابن كثير رحمه الله عند تفسير قول الله
جل في علاه في سورة النساء(2/448):
وَقَوْلِهِمْ
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ
يَقِينًا (157)
بَلْ
رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
كَانَ
مِنْ خَبَرِ الْيَهُودِ -عَلَيْهِمْ
لَعَائِنُ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ
وَعِقَابِهِ-أَنَّهُ
لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى،
حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ
النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ
الْبَاهِرَاتِ، الَّتِي كَانَ يُبَرِّئُ
بِهَا الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ
وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ،
وَيُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ طَائِرًا
ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا
يشاهَدُ طَيَرَانُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ،
عَزَّ وَجَلَّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَكْرَمَهُ
اللَّهُ بِهَا وَأَجْرَاهَا عَلَى
يَدَيْهِ، وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ
وَخَالَفُوهُ، وسَعَوْا فِي أَذَاهُ
بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ، حَتَّى جَعَلَ
نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، لَا يُسَاكِنُهُمْ فِي
بَلْدَةِ، بَلْ يُكْثِرُ السِّيَاحَةَ
هُوَ وَأُمُّهُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ،
ثُمَّ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى
سَعَوْا إِلَى مَلِكِ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ -وَكَانَ
رَجُلًا مُشْرِكًا مِنْ عَبَدَةِ
الْكَوَاكِبِ، وَكَانَ يُقَالُ لِأَهْلِ
مِلَّتِهِ:
الْيُونَانُ-وَأَنْهُوا
إِلَيْهِ:
أَنَّ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ رَجُلًا يَفْتِنُ
النَّاسَ وَيُضِلُّهُمْ وَيُفْسِدُ
عَلَى الْمَلِكِ رَعَايَاهُ.
فَغَضِبَ
الْمَلِكُ مِنْ هَذَا، وَكَتَبَ إِلَى
نَائِبِهِ بِالْقُدْسِ أَنْ يَحْتَاطَ
عَلَى هَذَا الْمَذْكُورِ، وَأَنْ
يَصْلُبَهُ وَيَضَعَ الشَّوْكَ عَلَى
رَأْسِهِ، وَيَكُفَّ أَذَاهُ عَلَى
النَّاسِ.
فَلَمَّا
وَصَلَ الْكِتَابُ امْتَثَلَ مُتَولِّي
بَيْتِ الْمَقْدِسِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ
هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى
الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ عِيسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ، اثْنَا عَشَرَ أَوْ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ -وَقِيلَ:
سَبْعَةَ
عَشَرَ نَفَرًا-وَكَانَ
ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ
الْعَصْرِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَحَصَرُوهُ
هُنَالِكَ.
فَلَمَّا
أَحَسَّ بِهِمْ وَأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ
مِنْ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ، أَوْ خُرُوجِهِ
عَلَيْهِمْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:
أَيُّكُمْ
يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي، وَهُوَ
رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فانتَدَب
لِذَلِكَ شَابٌّ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ
اسْتَصْغَرَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَهَا
ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَكُلُّ ذَلِكَ
لَا يَنْتَدبُ إِلَّا ذَلِكَ الشَّابُّ
-فَقَالَ:
أَنْتَ
هُوَ-وَأَلْقَى
اللهُ عليه شبه عيسى، حتى كأنه هو، وفُتحَت
رَوْزَنَة مِنْ سَقْفِ الْبَيْتِ،
وَأَخَذَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
سِنةٌ مِنَ النَّوْمِ، فَرُفِعَ إِلَى
السَّمَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ
[اللَّهُ]تَعَالَى:
{إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
}
الْآيَةَ
[آلِ
عِمْرَانَ:
55] .
فَلَمَّا
رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ
فَلَمَّا رَأَى أُولَئِكَ ذَلِكَ الشَّابَ
ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى، فَأَخَذُوهُ
فِي اللَّيْلِ وَصَلَبُوهُ، وَوَضَعُوا
الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَظْهَرَ
الْيَهُودُ أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي
صَلْبِهِ وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ،
وَسَلَّمَ لَهُمْ طَوَائِفُ مِنَ
النَّصَارَى ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ
وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، مَا عَدَا مَنْ
كَانَ فِي الْبَيْتِ مَعَ الْمَسِيحِ،
فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا رَفْعَهُ، وَأَمَّا
الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا
ظَنَّ الْيَهُودُ أَنَّ الْمَصْلُوبَ
هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.وَهَذَا
كُلُّهُ مِنِ امْتِحَانِ اللَّهِ
عِبَادَهُ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ
الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَقَدْ
أَوْضَحَ اللَّهُ الْأَمْرَ وَجَلَّاهُ
وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي الْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ، الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى
رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، الْمُؤَيِّدِ
بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ
وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، فَقَالَ
تَعَالَى -وَهُوَ
أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، وَرَبُّ
الْعَالَمِينَ، الْمُطَّلِعُ عَلَى
السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، الَّذِي
يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السموات وَالْأَرْضِ،
الْعَالِمُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ،
وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ
يَكُونُ-:
{وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ}
أَيْ:
رَأَوْا
شَبَهَهُ فَظَنُّوهُ إِيَّاهُ؛ وَلِهَذَا
قَالَ:
{وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ
يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}
يَعْنِي
بِذَلِكَ:
مَنِ
ادَّعَى قَتْلَهُ مِنَ الْيَهُودِ،
وَمَنْ سَلَّمه مِنْ جُهَّالِ النَّصَارَى،
كُلُّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ وَحَيْرَةٍ
وَضَلَالٍ وسُعُر.
وَلِهَذَا
قَالَ:
{وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا}
أَيْ:
وَمَا
قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ،
بَلْ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ.
{بَلْ
رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}
أَيْ
مَنِيعَ الْجَنَابِ لَا يُرَامُ جَنَابُهُ،
وَلَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ
{حَكِيمًا}
أَيْ:
فِي
جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ
مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَخْلُقُهَا
وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ،
وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وَالسُّلْطَانُ
الْعَظِيمُ، وَالْأَمْرُ الْقَدِيمُ.