الثلاثاء، 25 فبراير 2014

الغربة ثلاثة أنواع


الغربة ثلاثة أنواع

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين(186-190) -بتصرفي-:

الغربة ثلاثة أنواع: 

[الأول غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق]
______________________________________

وهي الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به: أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء.

وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده.

فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل وآنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.

قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزلها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب.

من صفات هؤلاء الغرباء: التمسك بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم.

فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم.

ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هم النزاع من القبائل» أن الله سبحانه بعث رسوله وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عُباد أوثان ونيران، وعباد صور وصلبان، ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريباً، وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله غريبا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته.

فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل، بل آحاداً منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباء حقا، حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجاً، فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريباً كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جداً، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس.

وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟

فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم؟

فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريباً بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شحهم، وأعجب كل منهم برأيه؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يد لك به، فعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، فإن وراءكم أياما صبر الصابر فيهن كالقابض على الجمر» .

ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه: أجر خمسين من الصحابة، ففي سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105] فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر؛ الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله، قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم» . وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس، والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم.

فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقها في سنة رسوله، وفهما في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه: فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف.

[الثاني غربة أهل الباطل]
__________________

النوع الثاني من الغربة غربة مذمومة وهي غربة أهل الباطل وأهل الفجور بين أهل الحق، فهي غربة بين حزب الله المفلحين وإن كثر أهلها فهم غرباء على كثرة أصحابهم وأشياعهم، أهل وحشة على كثرة مؤنسهم، يعرفون في أهل الأرض، ويخفون على أهل السماء.

[الثالث غربة مشتركة لا تحمد ولا تذم]
_______________________________

النوع الثالث: غربة مشتركة لا تحمد ولا تذم

وهي الغربة عن الوطن؛ فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء، فإنها ليست لهم بدار مقام، ولا هي الدار التي خلقوا لها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» . وهكذا هو في نفس الأمر؛ لأنه أمر أن يطالع ذلك بقلبه ويعرفه حق المعرفة، ولي من أبيات في هذا المعنى:

وحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه ليس ينعم
فمن أجل ذا لا ينعم العبد ساعة ... من العمر إلا بعد ما يتألم

وكيف لا يكون العبد في هذه الدار غريبا، وهو على جناح سفر، لا يحل عن راحلته إلا بين أهل القبور؟ فهو مسافر في صورة قاعد، وقد قيل:

وما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها داع إلى الموت قاصد
وأعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوى والمسافر قاعد