الأحد، 20 أبريل 2014

بعض ما يجري في يوم القيامة مما ذكر في الكتاب والسنة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد‏:‏ ‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ‏}‏ وتنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال‏.‏ فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره‏.‏ كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة‏.‏ وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها‏.‏
قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه للواسطية(105/109): ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا الكلام بعض ما يجري في يوم القيامة مما ذكر في الكتاب والسنة‏.‏ فإن تفاصيل ما يجري في هذا اليوم مما لا يدرك بالعقل، وإنما يدرك بالنقول الصحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا ينطق عن الهوى ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ ومن الحكمة في محاسبة الخلائق على أعمالهم ووزنها وظهورها مكتوبة في الصحف مع إحاطة علم الله بذلك، ليرى عباده كمال حمده وكمال عدله وسعة رحمته وعظمة ملكه‏.‏ وذكر الشيخ مما يجري في هذا اليوم العظيم على العباد‏:‏


1 ـ ‏(‏أنها تدنو منهم الشمس‏)‏ أي‏:‏ تقرب من رؤوسهم كما روى مسلم عن المقداد ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين‏)‏ قوله‏:‏ ‏(‏ويلجمهم العرق‏)‏ أي‏:‏ يصل إلى أفواههم، فيصير بمنزلة اللجام يمنعهم من الكلام وذلك نتيجة لدنو الشمس منهم، وذلك بالنسبة لأكثر الخلق، ويستثنى من ذلك الأنبياء ومن شاء الله‏.‏


2 ـ ومما ذكر في هذا اليوم قوله‏:‏ ‏(‏وتنصب الموازين وتوزن بها الأعمال‏)‏ الموازين‏:‏ جمع ميزان، وهو الذي توزن به الحسنات والسيئات، وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان، وهو من أمور الآخرة نؤمن به كما جاء ولا نبحث عن كيفيته إلا على ضوء ما ورد من النصوص‏.‏ والحكمة في وزن الأعمال إظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبه ‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ أي‏:‏ رجحت حسناته على سيئاته ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ الفائزون والناجون من النار المستحقون لدخول الجنة‏.‏ ‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ أي‏:‏ ثقلت سيئاته على حسناته ‏{‏فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ أي‏:‏ خابوا وصاروا إلى النار ‏{‏فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ ماكثون في النار‏.‏

والشاهد من الآية الكريمة‏:‏ أن فيها إثبات الموازين والوزن يوم القيامة‏.‏ وقد ورد ذكر الوزن والموازين في آيات كثيرة من القرآن، وقد أفاد مجموع النصوص أنه يوزن العامل والعمل والصحف، ولا منافاة بينها فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة والله أعلم.‏ وقد تأول المعتزلة النصوص في ذلك على أن المراد بالوزن والميزان العدل، وهذا تأويل فاسد مخالف للنصوص وإجماع سلف الأمة وأئمتها‏.‏

قال الشوكاني‏:‏ وغاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد‏.‏ فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم، وقال كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم‏.‏ اهـ.‏ وأمور الآخرة ليست مما تدركها العقول والله أعلم‏.‏


3 ـ ومما ذكره الشيخ من حوادث هذا اليوم العظيم قوله‏:‏ ‏(‏وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال‏)‏ أي‏:‏ الصحائف التي كتبت فيها أعمال العباد التي عملوها في الدنيا وكتبتها عليهم الحفظة لأنها تطوى عند الموت وتنشر‏.‏ أي‏:‏ تفتح عند الحساب ليقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها، ‏(‏فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره‏)‏ هذا فيه بيان كيفية أخذ الناس لصحفهم كما جاء ذلك في القرآن الكريم على نوعين‏:‏ آخذ كتابه بيمينه، وهو المؤمن، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهو الكافر‏.‏ بأن تلوى يده اليسرى من وراء ظهره ويعطى كتابه بها‏.‏ كما جاءت الآيات بهذا وهذا ولا منافاة بينهما لأن الكافر تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه‏.‏

ثم استدل الشيخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ‏}‏ الآية‏.‏ وطائره‏:‏ ما طار عنه من عمله من خير وشر ‏(‏في عنقه‏)‏ أي‏:‏ يلزم به ويجازى به لا محيد له عنه، فهو لازم له لزوم القلادة في العنق‏.‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا‏}‏ أي‏:‏ نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة، إما بيمينه إن كان سعيدًا، أو بشماله إن كان شقيًا، ‏{‏مَنشُورًا‏}‏ أي‏:‏ مفتوحًا يقرؤه هو وغيره‏.‏ وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏يَلْقَاهُ مَنشُورًا‏}‏ تعجيلًا للبشرى بالحسنة والتوبيخ على السيئة ‏{‏اقْرَأْ كَتَابَكَ‏}‏ أي‏:‏ نقول له ذلك‏.‏ قيل‏:‏ يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئًا ومن لم يكن قارئًا ‏{‏كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ أي‏:‏ حاسبًا، وهو منصوب على التمييز‏.‏ وهذا أعظم العدل حيث جعله حسيب نفسه ليرى جميع عمله لا ينكر منه شيئًا‏.‏


والشاهد من الآية الكريمة‏:‏ أن فيها إثبات إعطاء كل إنسان صحيفة عمله يوم القيامة يقرؤها بنفسه ويطلع عليها هو لا بواسطة غيره‏.‏


4 ـ ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ الحساب فقال‏:‏ ‏(‏ويحاسب الله الخلائق‏)الحساب‏:‏ هو تعريف الله ـ عز وجل ـ للخلائق بمقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما قد نسوه من ذلك، أو بعبارة أخرى‏:‏ هو توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرًا كانت أم شرًا‏.‏


ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ أن الحساب على نوعين‏:‏


النوع الأول‏:‏ حساب المؤمن قال فيه‏:‏ ‏(‏ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك بالكتاب والسنة‏)‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا‏}‏ الآيتان ‏(‏8، 9‏)‏ الانشقاق، وفي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له‏:‏ أتعرف ذنب كذا‏.‏ أتعرف ذنب كذا‏؟‏ أتعرف ذنب كذا‏؟‏ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك، قال‏:‏ فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته‏)‏ ومعنى يقرره بذنوبه‏:‏ يجعله يقر، أي‏:‏ يعترف بها‏.‏ كما في هذا الحديث‏:‏ أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا‏.‏ ومن المؤمنين من يدخل الجنة بغير حساب، كما صح في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب‏.‏


والحساب يختلف، فمنه اليسير وهو العرض، ومنه المناقشة‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا‏}‏ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إنما ذلك العرض وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب‏)‏‏.‏


النوع الثاني‏:‏ حساب الكفار، وقد بينه بقوله‏:‏ ‏(‏وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم‏)‏ أي‏:‏ ليس لهم حسنات توزن مع سيئاتهم لأن أعمالهم قد حبطت بالكفر فلم يبق لهم في الآخرة إلا سيئات فحسابهم معناه أنهم ‏(‏تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها‏)‏ أي‏:‏ يخبرون بأعمالهم الكفرية ويعترفون بها ثم يجازون عليها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ الآية ‏(‏50‏)‏ فصلت‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ‏}‏ الآية ‏(‏37‏)‏ الأعراف‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ الآية ‏(‏11‏)‏ الملك‏.‏