الجمعة، 10 يناير 2014

المخلوقات كلها على عظمها وسعتها ما هي بشيء بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى

قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد(2/321-332) وعند شرحه على النصوص التالية: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمّد، إنّا نجد أنّ الله يجعل السماوات على إصبع، والأرَضِيْن على إصبع، والشجرَ على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك.
فضحك النّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحَبْر، ثم قرأ:
{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية".
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزّهنّ فيقول: أنا الملك أنا الله ".
وفي رواية للبخاري: "يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلْق على إصبع" أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبّارون؟، أين المتكبِّرون؟ .
ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، فيقول: أنا الملِك، أين الجبّارون؟، أين المتكبِّرون؟ ".
وروي عن ابن عبّاس قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلاّ كخردلة في يد أحدكم".
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما السماوات السبع في الكرسي إلاّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس "(1)


قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض"(2)


وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أخرجه ابن مهدي عن حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله.


ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم بن أبي وائل، عن عبد الله.
قاله الحافظ الذهبي- رحمه الله تعالى- قال: (وله طرق) .

وعن العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل تدرون كم ما بين السماء والأرض؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر، يين أسفله وأعلاه كما بين السماء الأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" أخرجه أبو داود وغيره.(3):
قوله: "أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إِصبع" الأرضين: جمع أرض.
"والشجر على إصبع"؛ شجر الدنيا، شجر البر والبحر، فالشجر اسم جنس يشمل كلّ الشجر الذي في الدنيا.
"والثرى على إصبع " الثرى يعني: التراب: قال سبحانه وتعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) } أي: تحت التُّراب.
"وسائر الخلْق على إصبع" يعني: باقي المخلوقات.
فهذه خمسة أصابع عليها جميع المخلوقات العلوية والسفلية، كلّ إصبع عليه خلْقٌ من خلقه سبحانه وتعالى.
"فيقول: أنا الملك" ولا أحد ينازع في هذا، فدلّ على انفراده سبحانه بالمُلْك يوم القيامة، يقول الله جل وعلا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، ولا أحد ينازع في هذا فيدّعي شيئاً من ملك السماوات والأرض، لأنّه لا أحد يملك السماوات والأرض إلاّ الله سبحانه وتعالى.
أمّا المُلك المؤقت في الدنيا والملك الذي يُعطى لبعض النّاس فهذا عارية، ليس مُلكاً حقيقيًّا وإنّما هو عاريّة وامتحان يزول؛ {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) } .
فالأملاك ترجع إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يرث الأرض ومن عليها: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } .
قوله: "وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع" في هذه الرواية زيادة الجبال.
"ثم يهزُّهن" يحرِّكهنُّ سبحانه وتعالى.
"فيقول: أنا الملِك، أنا الله" هذا فيه: بيان عظمته، وربوبيّته ومُلكه سبحانه وتعالى، وعظيم قدْرته جل وعلا وتقرير انفراده بالملك.

قوله: "وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع" ذكر هنا أن أصابعه سبحانه استوعبت كلَّ الخلْق وأن يقبض السماوات والأرضين بيديه وهذا من عظمته سبحانه وتعالى. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف انتهى.
قال الإمام ابن خزيمة الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء. قال: فالإمساك على الأصابع قبل تبديل الله الأرض غير الأرض. انتهى بمعناه.
قال: "ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبّارون؟ " هذا تحدٍّ منه سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين يتجبّرون في الدّنيا.
والجبّارون: جمع جبّار، وهو المتعالي على النّاس بالقَهْر والغَلَبة والظُّلم والبَطْش بغير حق.
أمّا الجبّار من أسمائه سبحانه، فمعناه: المتعالي بحقّ.
"أين المتكبِّرون؟ " جمع متكبِّر، والمتكبِّر من الخلق هو: المتعالي، الذي يتعالى على النّاس بالظّلم والبَطْش، وكذلك يتعالى على الحق فلا يقبله. والمتكبر من أسماء الله الحسنى الكاملة يدل على العظمة والجلال والتنزه عن النقائص والعيوب ويتضمن صفة الكبرياء قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) } .
قوله: "روي عن ابن عبّاس قال: ما السماوات السبع والأرَضون السبع في كفِّ الرحمن إلاّ كخردلة في يد أحدكم" تقدّم بيان معنى هذا، وأنّ الله سبحانه وتعالى يطوِي السماوات فيأخذها بيده اليُمنى، ويطوي الأرضين السبع فيأخذهن بشمالِه، ثم يقول: "أنا الملِك ... " إلى آخره.
فقوله: "ما السماوات السبع في كفِّ الرحمن إلاّ كخردلة" أي: أنّه سبحانه وتعالى يطوي السماوات السبع ويقبضُها بيده اليُمنى، ويطوي الأرَضين السبع فيأخذهنّ بشماله، فتكون في كفِّه سبحانه وتعالى كخردلة، والخردلة هي: أصغر شيء يُضرب المثل بصغيرِها.
فهذه السماوات العظيمة في كَفِّ الرحمن والأرضون الواسعة وما فيها في كفِّ الرحمن كالخردلة في يد واحدٍ منّا، هذا تشبيه لصغر هذه المخلوقات بالنسبة إلى الله، كصغر حبّة الخردل في يد المخلوق، وليس هو من تشبيه الله سبحانه وتعالى أو صفة من صفاتِه بصفات المخلوقين، وإنّما هو تشبيه لصغر المخلوقات بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى بصغر حبّة الخردل بالنسبة ليد المخلوق.
وهذا من باب ضرب الأمثال التي تقرب بها المعاني ويوضح المقصود.
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: "أضواء البيان ": فيحصل من هذا البحث أن الصّفات من باب واحد وأن الحق فيها متركب من أمرين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الخلق.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إثباتاً أو نفياً وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والسلف الصالح رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك ولا كان يشكل عليهم. ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط وأما من جهة العلم فهو عامي:
وكيف أخاف النّاس والله قابض ... على النّاس والسبعين في راحة اليد
ومراده بالسبعين: سبع سموات وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السموات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به والإيمان بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة. ويروى نحو قول مالك عن شيخه ربيعة وأم سلمة رضي الله عنها والعلم عند الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله.
ثم قال: "وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وَهْب، قال: قال ابن زَيْد: حدثني أبي قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما السماوات السّبع في الكُرْسي إلاَّ كدراهم سَبْعة أُلقِيَتْ في تُرس" السماوات السبع: السماء الدنيا والتي تليها إلى السماء السّابعة على عظمتها وسَعَتها كما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) } ، هذه السموات السبع العظيمة الواسعة بطِباقها وتباعُد ما بينها هناك مخلوقٌ أعظم منها وهو الكُرسي.
والكُرسي مخلوق: قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، فهو مخلوقٌ من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
وهو فوق السماوات والسماوات بالنسبة إليه كسبعة دراهم أٌلْقِيَت في تُرْس.
والتُّرْس هو: القاع المستدير من الأرض، فلو ألقيت سبعة دراهم في قاعٍ من الأرض ماذا تكون نسبة هذه الدراهم السّبعة إلى هذا القاع الواسع؟، تكونُ صغيرة جدًّا.
وقد يُراد بالتُّرْس: الصفحة من الفُولاذ التي يتّخذها المقاتِل وقايَةً بينَه وبين السّلاح يتترّس بها.
ولكن الظّاهر المعنى الأوّل، وهو أنّ المراد به: القاع المستدير.
فالسماوات السبع بالنسبة للكرسي تكون كالدراهم السبعة إذا أُلقيت في القاع الواسع المستدير، فتكون نسبتُها ضئيلة، ممّا يدلّ على أنّ الكرسيَّ أعظمُ من السموات، وأنّها بالنسبة إليه صغيرة، والله جل وعلا يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، فمصداقُ هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى.
فدلّ على وُجود الكرسي، وأنّه مخلوق، أعظم من السماوات، وفي هذا ردٌّ على من فسّر الكرسي بالعلم، والصّواب: أنّ الكرسي غير العلم.
وفيه ردٌّ- أيضاً- على من فسّر الكرسي بالعرش، لأنّه سيأتي أنّ العرش غير الكرسي.
وقد جاء في الحديث: أن الكرسيَّ موضعُ القدمين، فهو مخلوقٌ مستقل، عظيم، أكبر من السموات على سعتها، وأعظم من السموات على عظمتِها.
قال: "وقال أبو ذرّ: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة أُلْقِيَتْ بين ظهراني فلاةٍ من الأرض" الكرسي سبق لنا أنّه مخلوق مستقلّ، وأنّه أعظم من السموات، لكن هناك مخلوق أعظمُ منه وهو العَرْش.
والعرش هو: سقف المخلوقات، وأعلى المخلوقات، وأعظمُها.
والكرسي بالنسبة إلى العرْش كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهراني فلاةٍ من الأرض، والفلاة هي: المكان المتّسع من الأرض، لو ألقيتَ فيها حَلْقة من حديد، فماذا تكون نسبة الحلْقة إلى هذه الفلاة الواسعة؟، قد لا تُرى أو تكون شيئاً ضئيلاً، فكذلك الكرسي بالنسبة لعرش الرّحمن كحلقة من حديد أُلْقِيَت في فلاةٍ واسعة من الأرض.
فهذا يدلّ على وُجود العرْش، وأنّه مخلوق من مخلوقات الله، وأنّه أكبر من الكُرْسي، وأنّ الكرسي أكبر من السماوات، فهذا يدلّ على عظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي هذه مخلوقاتُه العظيمة الهائلة.
وفي هذا رد على من فسّر العرش بالملك أو غير ذلك من التفاسير الباطلة.
ثم قال: "وعن ابن مسعود" حديث ابن مسعود هذا يبيِّن المسافات التي بين السماوات والأرض والمسافة التي بين السماوات والكُرْسي، والمسافة التي بين الكرسي وبين العرش.
"قال: " بين السمّاء الدنيا" يعني: القريبة من الأرض، الموالية للأرض كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} .
فبين الأرض والسماء الدنيا خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السّابعة والكُرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام وكثف كل سماء من السماوات السبع خمسمائة عام.
إذاً تكون المخلوقات: أوّلاً: الأرض، ثم فوقها السماوات السّبع، ثم فوق السموات السّبع الكرسي، ثم فوق الكرسي بحر ما بين أعلاه وأسفلِه خمسمائة عام، وفوق الماء عرْش الرّحمن سبحانه وتعالى، والله جل وعلا فوق العرش، هذا ترتيب هذه المخلوقات حسبما جاءت به النصوص، وهي متباعِدة فيما بينها، فبين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء والتي تليها- يعني: السماء الثّانية والسماء الثّالثة والرّابعة والخامسة والسّادسة والسّابعة- بين كلِّ سماء وسماء خمسمائة عام.
وكثف كل سماء خمسمائة عام.
وبين السماء السّابعة والكرسي- الذي مرَّ بنا أنّه أعظم من السموات، وأنّها بالنسبة إليه كالدّراهم في التُّرْس- بينهما خمسمائة عام، ثم فوق الكرسي بحر ما بين أسفلِه وأعلاه خمسمائة عامّ، ثم فوق الماء عرشُ الرّحمن سبحانه وتعالى: قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، فكما أن في الأرض بحراً يغمرها فكذلك في السماء بحر آخر غير البحر الذي في الأرض، وهذا البحر الذي في السماء بحر هائل عمقه خمسمائة عام، قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} .
فالعرش فوق هذا البَحْر، {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} .
إذاً يكون العرش هو أعظم المخلوقات، أعظم من هذا البَحْر، وأعظم من الكُرْسي، وأعظم من السموات، وأعظم من كلِّ المخلوقات، فالعرش هو أعظم المخلوقات، وأوسعُها، وأعظمُها، والله سبحانه وتعالى أضافه إلى نفسه فقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) } {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فتمدح سبحانه وتعالى به وذلك لأنّه خلْقٌ عظيم، وخَلْقٌ فيه عبرٌ عظيمة يدل على عظمة خالقه.
ثم قال: "وبين السماء السّابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء" أي فوق هذا البحْر.
"والله فوق العرش" فهو سبحانه وتعالى فوق مخلوقاتِه، عالٍ على خَلْقِه سبحانه وتعالى، العليُّ الأعلى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، وأدلّة علوّ الله جل وعلا على خلْقه كثيرة في الكتاب والسنّة والعقْل والفطرة حتى قال بعضُهم: "إنّها بلغت ألف دليل"، وقد ألّف الحافظ الذهبي رحمه الله كتاباً مستقلاً في العلو سمّاه: "العلوُّ للعليِّ الغفّار"، وهو مطبوع ومتداوَل، ذكر فيه النّصوص الدالّة على علوّ الله على خلْقه، وقد أجمع أهلُ السنّة والجماعة على علوّ الله سبحانه وتعالى بذاتِه على خلقه، ولهذا قال: "والله فوق العرش"، يعني: إذا كان العرش فوق المخلوقات والله فوق العرش، فدلّ على أنّ الله جلا وعلا هو العليُّ الأعلى فوق مخلوقاته جل وعلا، وأنّ المخلوقات كلُّها بالنسبة إلى كف الرحمن سبحانه كالخرْدَلة في يد أحدِنا كما سبق فيما ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

قوله: "لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أي: مع علوِّه على خلْقه لا يَتصوّر أحدٌ أنّه بعيدٌ عن عبادِه، بل له هذا العلوّ، ومع هذا لا يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم، فهو سبحانه وتعالى فوق العرْش وعلمُه في كلِّ مكان، لا يخفى عليه شيء: {إِنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) } ، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) } ، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، {مَعَكُمْ} أي: بعلمه سبحانه وتعالى وإحاطته، لا تخفون عليه، ولا تخفى عليه أعمالُكم خيرُها وشرُّها، وكلُّ ما يصدر من عباده فإنّه يعلمُه سبحانه وتعالى من الطّاعات والمعاصي والخير والشّرّ، كلّه يعلمه سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالهم: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) } .
فلا يتصوّر أحدٌ أنّ الله إذا كان في العلوّ أنّه يكون بعيداً عن عبادِه، وأنّه لا يعلم أعمالهم، فيتصوّر أنّ الخالق مثل المخلوق، إذا كان في مكان مرتفع فإنّه لا يعلم ما تحتَه، ولا يدري ما يحدُث بما تحته، هذا في حق المخلوق، أما الله جل وعلا فإنّه لا يخفى عليه شيء، والمخلوقات كلها على عظمها وسعتها ما هي بالنسبة إليه بشيء سبحانه وتعالى فهو محيطٌ بها، يعلمُها ويراها، ويسمع ما يحدُث فيها، ويرى ما يحدُث فيها، هو بكلِّ شيء عليم سبحانه. ولا يحدث فيها شيء إلاَّ بقضائه وقدره وأمره.
فهذا فيه: الجمع بين العلوّ والعلم والإحاطة.
 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتدرون كم بين السماء والأرْض؟ بينهما مسيرة خمسمائة سنة" أي: بين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام.
"وبين كلِّ سماء إلى سماء خمسمائة عام، وكثف كلِّ سماء" هذه هي الزيادة التي جاء بها هذا الحديث عما قبله، أي: غِلَظ كلّ سماء وسمكها.
"وبين السماء السّابعة والعرْش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض" هذا بيان عمق البحْر.
والعرش فوق الماء، وهذا سبق، وهو في الآية الكريمة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} .
"والله تعالى فوقَ ذلك، وليس يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم" هذا كما سبق أنّ الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه بذاته سبحانه وتعالى، ومع علوِّه سبحانه- على مخلوقاته فإنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخفى عليه شيءٌ ممّا يحدُث في هذا الكون في أعلاه وفي أسفله، وجميع أعمال بني آدم على كثرة بني آدم وتفرُّقهم في الأرض واختلاف أمكنتهم فإنّ الله يعلم جميع ما يصدُر منهم: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) } ، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء على كثرة العباد، وتفرُّقهم في الأرض، واختلاف أمكنتهم، وتبايُن ما بينهم وخفاء أعمالِهم فإنّ الله جل وعلا يعلمُها: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي أخفى من السّرّ، بل يعلم ما في النّفس وما في القلب قبل أن يتكلّم الإنسان فالله يعلم ما يختلج في نفسك وما يدور في فِكْرك قبل أن تتكلّم وقبل أن تعمل، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، وهو العليُّ الأعلى فوقَ مخلوقاتِه سبحانه.
يُستفاد من هذه النصوص فوائد عظيمة جليلة:
أوّلاً: فيه قَبُول الحقِّ مِمَّن جاء به، فإنّ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبِل الحق من هذا اليهودي وفرح به - عليه الصلاة والسلام-.

ثانياً: في هذه النّصوص مشروعيّة التحدُّث عن آيات الله الكونيّة، من أجل الاعتبار والاتّعاظ، وتعظيم الله سبحانه وتعالى وإفرادِه بالعبادة، وليس التحدُّث بهذه الأمور هو من باب الاستطلاع أو زيادة المعلومات فقط، وإنّما هو من أجل الاعتبار والاتّعاظ والاستدلال على استحقاق الله جل وعلا للعبادة دونما سواه، هذا هو المطلوب.
ثالثاً: فيها إثبات اليدين لله جل وعلا، والكف، والأصابع، ووصف يديه باليمين والشِّمال، وفي حديثٍ آخر: "وكلتا يديه يمين"، فهي شِمال لكنّها ليست كشِمال المخلوق، فشِماله يمين، خلاف المخلوق فإنّ شِماله لا تكون يميناً، وإنّما هذا خاصٌّ بالله تعالى بأن "كلتا يديه يمين"، فله يد يمين وله شِمال كما في هذه الأحاديث، فهي يمين لا تُشبه يمين المخلوقين وشمالٌ لا تشبه شمال المخلوقين، وله أصابع سبحانه لا تُشبه أصابع المخلوقين، بل تليق به سبحانه وتعالى.
رابعاً: في هذه النّصوص بيانُ المسافات التي بين هذه المخلوقات: المسافات بين السماء والأرض، المسافات بين السموات، المسافات بين السموات والكرسيّ، المسافات بين الكرسي والماء، وهذه مسافات عظيمة متباعِدة، ممّا يدلّ على عظمة هذا الكون، وعظمة هذا الكون يدلّ على عظمة خالقِه سبحانه وتعالى.
وفيها: الردُّ على أصحاب النظريّات الحديثة الذين لا يؤمنون بوجود السموات، ولا بوجود هذه المخلوقات العُلْويّة، وإنّما يظنّون أنّ هذا فضاء خارجي، وعندهم: أن الكون هو المجموعة الشمسيّة، ويعتبرون أنّ الشمس هي المركز لهذه المجموعة، وأنّ هذه الأفلاك بكواكبها تدور عليها -بما فيها الأرض، وهذا من الكذب على الله سبحانه وتعالى، والقول على الله بلا علم، والتخرُّص الذي ما أنزل الله به من سلطان، والنّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن هذه المخلوقات في هذه الأحاديث: أوّلاً: الأرض، ثم فوقها السموات السّبع، ثم فوق السموات السّبع الكرسي، ثم فوق الكرسي البحر، ثم فوق البحر العرش، والله جل وعلا فوق العرْش، فيجب الإيمان بذلك، وتكذيب هذه النظريّات الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان. فالله أخبر أن الأرض قرار وأن الشمس تجري وأصحاب النظريات يقولون بالعكس.
خامساً: في هذه النّصوص إثبات أنّ الأرضين سبع كالسموات، والله جل وعلا لم يذكر في القرآن عدد الأرضين، ولكنّه أشار إلى هذا في قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، فقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، يدلّ على أنّ الأرضين سبع، وجاء مصرَّحاً بذلك في السنّة كما في الأثر الأوّل، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من اقتطع شِبْراً من الأرض طُوِّقَه يومَ القيامة من سبع أَرَضين"، فدلّ هذا على أنّ الأَرَضين سبع.
سادساً: فيها بيان كيفيّة هذه المخلوقات، وأنّ بعضَها فوق بعض، فالأرض أوّلاً ثم السموات، ثم الكرسيّ، ثم البَحْر، ثم العَرْش، وأنّ العرش هو أعظم هذه المخلوقات وفيها رد على من يقول إن العرش هو الملك وأن معنى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استولى على الملك.
سابعاً: فيها أنّ الكرسي غير العرش، وأنّه مخلوق مستقل، ردّاً على من زعم أنّه العرْش، أو أنّ المراد به العلم.
ثامناً: في هذه النّصوص إثبات علوّ الله على عرشِه، ردًّا على الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة ونُفاة العلوّ الذين ينفون علوَّ الله على عرشِه.
تاسعاً: فيها إثبات إحاطة علمِ الله- جلّ وعلا بكلِّ شيء-، وأنّه لا تخفى عليه أعمال عباده صغيرُها وكبيرُها.
عاشراً: فيها وُجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، لأنّه إذا كانت هذه المخلوقات العظيمة حقيرةٌ بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وصغيرة بالنسبة إليه، وأنّه يتصرّف فيها جل وعلا، ويعلم ما يجري فيها وما يكونُ فيها؛ فهو المستحقُّ للعبادة، وبُطلان عبادة ما سواه ممّن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً.
________________
(1): ضعيف.
(2): قال الشيخ الألباني في شرح الطحاوية: صحيح.
(3): قال الإمام ابن بازفي سنده انقطاع لكنه ينجبر

قال العلامة الفوزان في ص(11) من المجلد1:شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لم يورد في هذا 

الكتاب إلاَّ ما صح من الأحاديث، أو كان حسن الإسناد، أو هو ضعيف الإسناد وله شواهد تقوّيه، 

أو هو داخل تحت أصل عام يشهد له الكتاب والسنة