الخميس، 13 نوفمبر 2014

أَيشْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ؟

(من كتاب الغرباء للآجري)

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيشْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ؟
قِيلَ لَهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: هُوَ الرَّجُلُ الْحَاضِرُ الَّذِي قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ , فَرَزَقَهُ مَالًا وَوَلَدًا سَرَّهُ بِهِمَا , وَزَوْجَةً حَسْنَاءَ وَدَارًا قَوْرَاءَ , وَلِبَاسًا نَاعِمًا , وَطَعَامًا طَيِّبًا , فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ عَرَضَ لَهُ سَفَرٌ لَابُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ فِيهِ , فَخَرَجَ فَطَالَ بِهِ السَّفَرُ وَفَقَدَ جَمِيعَ مَا كَانَ يَلَذُّ بِهِ , وَصَارَ غَرِيبًا فِي بَلَدٍ لَا يُعْرَفُ فَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْغُرْبَةِ لِمَا قَاسَى فِيهَا مِنَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ , وَحَنَّ قَلْبُهُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ , فَجَدَّ فِي السَّيْرِ , هَمُّهُ فِي مَسِيرِهِ أَنْ يَقْطَعَ السَّفَرَ بِالتَّحَرِّي , فَطَعَامُهُ الْيَسِيرُ مِمَّا فِيهِ كِفَايَتُهُ وَلِبَاسُهُ الْحَقِيرُ لِمَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ جُلُّ مَا يَحْمِلُ مَعَهُ جِرَابُهُ وَرِكْوَتُهُ , يُكَابِدُ السَّهَرَ لِيَقْطَعَ عَنْهُ شِدَّةَ آلَامِ السَّفَرِ , وَقَلْبُهُ مُتَطَلِّعٌ إِلَى مَا يَلَذُّ بِهِ الْحَضَرُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَذَى صَابِرٌ عَلَى الْبَلْوَى لَا يَعْرُجُ فِي مَسِيرِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا غَيْرَ مَا فِيهِ بَعْضُ كِفَايَتِهِ , قَدْ لَهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ فِيهِ لَذَّةٌ , يَنَامُ بِاللَّيْلِ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ وَيَقِيلُ بالنَّهَارِ فِي فَيَافِي الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ عَلَى التُّرَابِ , إِذَا مَرَّ بِمَا تَهْوَاهُ النُّفُوسُ لَا يَعْرُجُ عَلَيْهِ , يُحَادِثُ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَنْهُ يَقُولُ لَهَا حَتَّى أَبْلُغَ مُسْتَقَرِّي فَأَمْنَحَكِ مَا تُحِبِّينَ , إِذَا أَجْهَدَهُ السَّيْرُ يَبْكِي بِحُرْقَةٍ وَيَئِنُّ بِزَفْرَةٍ وَيَخْتَنِقُ بِعَبْرَةٍ لَا يَجْفُو عَلَى مَنْ جَفَا عَلَيْهِ وَلَا يُؤَاخِذُ مَنْ آذَاهُ وَلَا يُبَالِي بِمَنْ جَهِلَهُ , قَدْ هَانَ عَلَيْهِ فِي غُرْبَتِهِ جَمِيعُ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَقْطَعَ السَّفَرَ وَيَرِدَ الْحَضَرَ , فَقِيلَ لِهَذَا الْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ الَّذِي يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَيَشْنَأُ الدُّنْيَا: كُنْ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ هَذَا الْغَرِيبِ لَا يَعْرُجُ إِلَّا عَلَى مَا قَلَّ وَكَفَى وَقَدْ تَرَكَ مَا كَثُرَ وَأَلْهَى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كُنْتَ غَرِيبًا كَعَابِرِ سَبِيلٍ حَتَّى تَرِدَ الْآخِرَةَ وَأَنْتَ مُحَقِّرٌ مِنَ الدُّنْيَا حِينَئِذٍ تَحْمَدُ عَوَاقِبَ الصَّبْرِ في جميع ما نالك من المشقة في سفرك والله أعلم.